بقلم : د. عبد الحق الكوالي – في ماينز – ألمانيا – عضو المجلس الأعلي للمسلمين في أوربا
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم أجمعين؛ وبعد:
فهذا مقال بعنوان: (الاستعداد لنوال منح رمضان في ظل استمرار محنة كورونا)؛ أعددته في عجالة، لإفادة الإخوان والخلان، بين يدي شهر رمضان حثاً على الإعداد والاستعداد لنوال خيرات وبركات شهر الغفران، والذي يتزامن مقدمه مع انتشار جائحة كرونا التي لم يسلم منها بلد من البلدان ولا وطن من الأوطان؛ أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يسلمنا منه ومن كل الأسقام وأن يشملنا بالعفو والضمان.
ورغبةً في جمع أطراف عنوانه قسمته إلى أربعة محاور؛ وبنيت المحاور على معاقد وربطت كل معقد بحكمة من حكم ابن عطاء الله السكندري رحمه الله(709ه)؛ حباً له ولحكمه أولاً، وتفاؤلاً باسمه لنوال العطاء الإلهي عموماً والرمضاني خصوصاً؛ مستناً في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يحب التفاؤل بالاسم الحسن، وجعلت تحت المحاور والمعقد مطالب؛ على ما يلي:
المحور الأول: الاستعداد للقربات التعبدية.
المحور الثاني: المنح الرمضانية.
المحور الثالث: منح المحنة الظرفية.
المحور الرابع: سبل الظفر بين المنح الرمضانية ومنح المحنة الظرفية.
والله العظيم أسال أن يرزقني التوفيق والسداد والإخلاص في القول والعمل آمين.
المحور الأول: الاستعداد للقربات التعبدية:
ومعقده قول ابن عطاء الله السكندري رحمه الله (من أشرقت بدايته أشرقت نهايته)؛ وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تحقيق كمال الاستعداد لتحقق نوال المراد:
ويتحقق كمال الاستعداد لتحقق نوال المراد بما يلي:
أولا: استحضار القصد والنية وهما مبتنى الاعتقاد ؛ ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) (أخرجه مسلم في صحيحه برقم 5434).
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك) (أخرجه البزار في مسنده برقم 2943).
اللهم سلمنا من الرياء، وارزقنا الإخلاص في القول والعمل، وفي السر والعلن، إنك رب ذلك والقادر عليه.
ثانياً: تجديد التوبة وإعلانها عما سبق من ذنب وإفساد؛ قال الله تعالى:( يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً) سورة التحريم الآية 8، لذا كان ﻻزماً علينا تجديد التوبة قبل رمضان لئلا نُحرم لذيذ المناجاة وحلاوة الطاعة التي هي جنة الدنيا المعجلة .
ثالثاً: التفقه في الأحكام حتى يعبد الله على بصيرة ورشاد؛ فقد بوب على ذلك البخاري في صحيحه فقال: “باب العلم قبل القول والعمل، لقول الله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله)، فبدأ بالعلم”.
وفي الصحيحين من حديث معاوية رضي الله عنه أن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – يقول : (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) روى البخاري (71) ، ومسلم (1037)، ومما تناقل وتواتر نقله بين العلماء والفقهاء المقولة السائرة”لن تكون متديناً إلا بالعلم …فالله لا يعبد بالجهل”.
المطلب الثاني: موجبات تحقيق كمال الاستعداد؛ وفيه فروع[1]:
ويتحق جماً الاستمداد بالإلتجاء إلى الله لطلب المعونة والهداية والرشاد؛ لأن الله جل في علاه ربط بين العبادة والاستعانة ربطاً محكماً في قوله جل جلاله في سورة الفاتحة:(إياك نعبدُ وإياك نستعين)؛ وقد صدق الشاعر في قوله:
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى … فأول ما يقضي عليه اجتهادُهُ”
و الوصية النبوية التي جاءت في سياق المحبة ما فحواه أن على الإنسان أن يستعين بالله على طاعته دبر كل صلاة فقال صلى الله عليه وسلم:(اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)( رواه أبو داود، والنّسائي)؛ فأرشد معاذاً رضي الله عنه أن يستعين بالله في سائر أنواع العبادات .. فالذكر إشارة إلى عبادة اللسان، والشكر إشارة إلى عبادة الجِنان، وحسن العبادةِ إشارة إلى عبادة الأركان.
وفي هذا السياق يقول ابن عطاء السكندري رحمه الله:(ما توقف مطلب أنت طالبه بربك ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك).
وذلك باستذكار أحاديث خير العباد: وشرط هذا الاستذكار أن يكون بعاطفة القلب وعقل القلب لا بمجرد اللسان؛ والمقصود هنا هو استذكار تلك الأحاديث المرغبة في إدراك رمضان واستثماره والمرهبة من تضيعه من قبيل:
أ- روى ابن حبان أيضا في صحيحه عن مالك بن الحويرث، قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فلما رقي عتبة، قال: «آمين» ثم رقي عتبة أخرى، فقال: «آمين» ثم رقي عتبة ثالثة، فقال: «آمين» ثم، قال: «أتاني جبريل، فقال: يا محمد، من أدرك رمضان فلم يغفر له، فأبعده الله، قلت: آمين … الحديث .
ب- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه )( متفق عليه).
فالناس يخططون لكل مشاريعهم التجارية في هذه الحياة، ولكنهم لايخططون لعبادتهم؛ وهي أعظم تجارة على الإطلاق لأن المشتري فيها هو الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، والثمن المقدم فيها هو جنة عرضها السموات والأرض؛ قال الله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين) سورة الصف 10-12، و قال الله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) سورة التوبة الآية111
وأركان التخطيط المستفاد ثلاثة؛ وهي:
الأول: منهجة الأوراد: ومعناه النظري: أن يجعل العبد لنفسه منهجاً واضحاً فيما يريد إنجازه من عبادات رمضانية؛ وأن يحذر من أن يكون ترتيبه للأوراد مبهماً غائماً؛ ومعناه التطبيقي: أن يكون العبد واضحاً مع نفسه محدداً كم ختمة يريد أن يختم؟ كم صلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم يرديد أن ينجز؟ كم مقدار الصدقة الذي يريد أن يتصدق بها في هذا الشهر؟ وهكذا…
الثاني: تفتيت الأوراد: والمقصود به أن يجزئ الأوراد ويقسّمها على أوقات اليوم؛ قد يستصعب المرء الجلوس لقراءة ثلاثة أجزاء في اليوم؛ ولكنه إذا قسمها فخصص لها عشر دقائق قبل كل صلاة وعشر دقائق بعدها سيحقق بذلك قراءة الأجزاء الثلاثة التي أراد ويختم القرآن في عشرة أيام دون تعبٍ ولا نصب…
الثالث: تركين الأوراد: ومعناه أن لا تعطي للورد فضل وقتك بل تجعلها ركناً في برنامجك اليومي؛ تُدير عليها بقية الأشغال ولا تديرها هي حول الأشغال.
ومعناها أن يبحث كل إنسان عن تلك (المكمّلات) التي تعينه على ترفدُه للعبادة وتساعده، وتدفعه إلى التغلب عن كسله و يتحرك بها قلبه، وتنمي شوقه، وتبعث همته.
وتتحقق مكملات الزاد بثلاثة أركان وهي:
الأول: الاقتداء بأهل الرشاد: وذلك بقراءة قصص الصالحين وأخبارهم مع العبادة عموماً، وبرامجهم الخاصة في رمضان؛ وأول أولئك العباد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال ابن القيم – رحمه الله تعالى -: “وكان من هديه – صلى الله عليه وسلم – في شهر رمضان: الإكثار من أنواع العبادات، فكان جبريل – عليه الصلاة والسلام – يدارسه القرآن في رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجـود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، يكثر فيـه الصدقة، والإحسان، وتلاوة القرآن والصلاة والذكر، والاعتكاف. وكان يخص رمضان من العبادة ما لا يخص غيره به من الشهور، حتى إنه كان ليواصل فيه أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة”[2].
وهذا الإمام البخاري – رحمه الله – كان إذا كان أول ليلة من شهر رمضان، يجتمع إليه أصحابه فيصلي بهم ويقرأ في كل ركعة عشرين آية، وكذلك إلى أن يختم القرآن. وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، فيختم عند الإفطار كل ليلة ويقول: عند كل الختم، دعوة مستجابة[3].
وروي عن الشافعي أنه كان يختم في رمضان ستين ختمة سوى ما يقرأ في الصلاة، قال الربيع: “كان الشافعي يختم كل شهر ثلاثين ختمة، وفي رمضان ستين ختمة سوى ما يقرأ في الصلاة”[4].
الثاني: صحبة أهل الإمداد: أي صحبة أهل الخير والإسعاد؛ الذين يتنافسون في التحقق بصفات العباد؛ أعني قول الله تعالى:( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً..) الآيات 63- 77 .
الثالث: تجنب صحبة أهل الفساد: الذين لا تورث صحبتهم فعل الشر والكساد.
وفي الركن الثاني والثالث قال ابن عطاء السكندري رحمه الله: (لاتصحب من لاينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله).
المحور الثاني: كلمة في المنح الرمضانية:
ومعقده قول ابن عطاء الله السكندري رحمه الله ( إذا فتح لك وجهة من التعرف فلا تبال معها إن قل عملك، فإنه ما فتحها لك إلا وهو يريد أن يتعرف إليك. ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك والأعمال أنت مهديها إليه، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك)؛ وفيه مطلبان:
المطلب الأول: المنح الرمضانية العامة:
يشتمل شهر رمضان على عدد من المنح منها على سبيل المثال لا الحصر:
ولكن التفصيل فيها يبقى كلاماً بشرياٍ لا أخاله يخفى عليكم.
المطلب الثاني: المنح الرمضانية الخاصة:
إن كانت من منح رمضانية تكون جديرة بالذكر والإشادة فهي كون -رمضان-:
أولا: منحة رحمة الله، ومنحة فضل الله؛ المستفادة من قوله سبحانه:(قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فيليفرحوا) سورة يونس الآية 53.
ثانياً: بل هو هو كله منحة الله؛ قال الله تعالى في الحديث القدسي (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به) روى البخاري (1761) ومسلم (1946)؛ وهل هناك منحة أعظم من هذه المنحة؟
ثالثاً: رمضان منحة مُشبعة بالواردات الإلهية والأنوار الربانية؛ والوارد هو نور إلهي يقذفه في قلب من أحب من عباده؛ قال ابن عجيبة وهو عل ثلاثة أقسام:
وقال ابن عطاء مجمل هذه القواعد ( إنما أورد عليك الوارد لتكون عليه وارداً، أورد عليك الوارد ليتسلمك من يد الأغيار وليحررك من رق الآثار، أورد عليك الوارد ليخرجك من سجن وجودك غل فضاء شهودك) .
وكل هذه الواردات الإلهية يشتمل عليها هذا المعيار الزماني المبارك؛ الذي خصه الله بجوامع النفحات والرحمات وتنزيل الآيات البينات.
المحور الثالث: كلمة في منح المحنة الظرفية:
معقد هذا المحور قول ابن عطاء الله السكندري -رحمه الله- (ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، ومتى فتح عليك باب الفهم في المنع عاد المنع عين العطاء).
لاشك أن الأزمة العامة الناتجة عن انتشار فيروس كرونا؛ هي محنة بكل المقاييس؛ إذ لا يخفى سببته من خوف وقلق وحزن وعدم أمن…وغير ذلك من الأعراض والأمراض.
لكن المؤمن المقتدي بالهدي النبوي؛ هو من يتلمس المنح من المِحَن المِنَح والعطايا في الرَّزايا؛ لوقوفه على اسم اللطيف والرحيم؛ فيوقن أن ألطافُ الله جارية ورَحَماته مُتتالية.
فلا ينشغل بالمحنة ليعيش وإنما يطلب منحها ليعيش لذة قلبية روحية؛ تعرج فيها الروح في مدارج السالكين لتبلغ منازل السائرين إلي رب العاملين.
وتلمس المنح في المحن منهج دلت عليه الآيات وأرشدت إليه الأحاديث والآثار:
جَزَى اللهُ الشَّدَائِدَ كُلَّ خَيْرٍ *** وَإِنْ كَانَتْ تُغَصِّصُنِي بِرِيقِي
وَمَا شُكْرِي لَهَا حَمْدًا وَلَكِنْ *** عَرَفْتُ بِهَا عَدُوِّي مِنْ صَدِيقِي
ومن منح المنحة؛ والفهم في المنع في هذه الظرفية أنه أبرزت لنا عددا من أبواب التعبد؛ لا تبرز جلية إلا في المحن منها:
المحور الرابع: كلمة في سبل الظفر بين المنح الرمضانية ومنح المحنة الظرفية:
معقد هذا المحور قول ابن عطاء الله السكندري رحمه الله (إنما يؤلمك المنع لعدم فهمك عن الله فيه)؛ وفيه مطالب:
المطلب الأول: لنجعل شعار رمضان هذه السنة:(لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم)
كفانا من البكاء والتباكي على إغلاق المساجد؛ وتعليق هذا الأمر الجزئي بمنحة رمضان بكليته؛ لأن الأصل هو عمارة قلب الساجد قبل عمارة المساجد؛ ليس تقليلا من شأن المساجد فهي بيوت الله وهي محل الخيرية وأماكن رياض الجنة العلية، لكن الحقيقة التي لا تنسى أن:
وأخرج البيهقي في الشعب حديث ابن عباس قال: لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، قال: مرحبًا بك من بيت، ما أعظمك، وأعظم حرمتك! وللمؤمن أعظم عند الله حرمة منك. والحديث في السلسلة الصحيحة برقم: 3420.
فالتعبد الرمضاني ليس مرتبطا بمكان؛ فالأرض كلها مسجد قال صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي المسجد وطهورا) رواه مسلم حديث رقم 851، (اجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة) سورة الآية 87، (فانتبذت من أهلها مكانا قصيا) سورة مريم الآية 22.
ثم إن ثمة حقائق أساسية لا يبنغي أن نغفل عنها وهي:
المطلب الثاني: رمضان هذه السنة فرصة لكسر العادة في العبادة وتحقيق تخليص العبادة.
رمضان في ظل المحنة درس جليل في كسر العوائد التي ارتطبت بشهر رمضان؛ فقد داخل رمضان عادات تؤثر على روح وجمالية الفرض والنفل في رمضان؛ من ذلك:
وهكذا فإن الصيام في ظل هذه الوضع الطارئ فيه خير كبير لأنه يكون محكا ليعرف الإنسان مدى إخلاصه وتخليصه لعبادته، وبراءته ممن يخلطون من العبادات بالعبادات، ويعكرون صفو نيتها وصفائها.
المطلب الثالث: رمضان هذه السنة فرصة لتحريك مساحات من الفقه ظلت نظرية:
هذه المحنة التي نعيشها في هذا الظرف (محنة فيروس كرونا)؛ مستقلة كان لها الأثر في تحريك مساحات من الفقه ظلت جامدة أو كامنة عهودا؛ فكان لهذه المحنة دورا في بروز مجموعة من ألوان الفقه:
وغيرها من صنوف الفنون الفقهية العلمية التي برزت التي ليس هذا محلُّ بسطها؛ فلننتقل للمقصود فأقول:
إلى جانب بروز هذه الفنون الفقهية المتخصصة؛ التي برزت في هذه المحنة الظرفية؛ فثمة صنوف من الفقه التطبيقي يغذي بروزها موافقة المعيار الزماني لرمضان هذه السنة مع المعيار الزماني لهذه المحنة؛ ويعد فهمها وتمثلها معينا على بلوغ هذا المراد الذي نص عليه الإمام الغزالي في خصوص الصيام بقوله:( حقيق بالمسلم أن يربأ بنفسه عن صوم العوام -وهو صوم البطن والفرج- وأن يأخذ بنفسه إلى مراتب صوم الخواص، ليكون من المقربين عند رب العالمين، وَلِيَصْدُقَ عليه قوله تعالى: {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون} (الأحقاف:16))[5]؛ منها على سبيل المثال لا الحصر:
أولا: الفقه الأسري؛ ومن فروعه في شهر رمضان الصوم الأسري؛ رغم أن الخطاب الدعوي ظل لسنوات عديدة يحض ويحث على إقامة العبادة الرمضانية في إطار الأسرة، لكن نتائج الالتزام بهذه الدعوة بقيت قليلة محدودة ومن أسباب ذلك خروج الرجال لإقامة شعيرة التراويح في المساجد وبقاء النساء ولأطفال في البيوت دائما أو في الغالب، بالإضافة إلى أن التزام الرجال والنساء ببرامج إيمانية خارجية؛ فالرجال بعضهم مع بعض في حلقات والنساء مع النساء في حلقات، فكانت هذه الإلتزامات الدعوية الخارجية تعيق إقامة برامج في البيوت أصلية بل تكون تبعية للبرامج الخارجية.
وفي ظني أن الإلزام بغلق المساجد، وعدم عقد اللقاءات الاجتماعية، كفيلة بإعادة تقويم البوصلة لتصير البرامج الإيمانية والتربوية والتعبدية في إطار الأسرة هي الأصل وغيرها تبع.
ثانيا: الفقه المجتمعي؛ ومن فروعه في شهر رمضان الصوم الاجتماعي؛ الفقه الاجتماعي الذي يزكيه الصيام؛ والذي لطالما تأكد الحث على استشعاره لبلوغ درجة صوم الخاصة وتجاوز صوم العامة؛ حسب تصنيف الإمام الغزالي الذي قال:( أما صيام الصنف الأول – وهو صوم العامة- فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة فحسب، وليس وراء ذلك شيء، وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم عن هذا الصنف من الناس بقوله: (رُبَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش) رواه الإمام أحمد وابن ماجه.
وأما – صوم الخاصة- فهو كف الجوارح عن الآثام، كغض البصر عما حرم الله، وحفظ اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة، وكف السمع عن الإصغاء إلى الحرام، وكف باقي الجوارح عن ارتكاب الآثام…)[6]، ويتحصل الصوم الاجتماعي الذي هو ب:
ثالثا: الفقه الشهودي: ومن فروعه في شهر رمضان الصوم الشهودي؛ الصوم الذي وصف الغزالي صاحبه بأنه:(مقبل بكامل الهمة على الله، منصرف عما سواه، متمثلاً -في كل ذلك- قوله تعالى:{قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} (الأنعام:91)..)[7] إنه (صوم خاصة الخاصة، فهو صوم القلب عن الأفعال الدنيئة، والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوى الله سبحانه بالكلية..)[8].
هذا هو صوم القلب عما سوى الله الذي يتدرب فيه العبد على تحقيق الشهود وبلوغ مقام الإحسان ؛ إذ الصوم يربي العبد على الإخلاص لأنه عملي خفي، والتخلص من الشهوات المشوشات لتعلق القلب بالرب العلي، ولربما تعكر صفو هذا الشهود بحضور صلاة التراويح التي تُقام علانية، وما يتبعها من إبداء الصدقات في المحافل الجماعية؛ وإقامة العمرات مع الأفواج علانية، وفي اعتقادي أن موافقة رمضان للظروف الخاصة الحالية مساعد على التحقق بالشهود ومعين على تحقيق الشهود.
خاتمة بالدعاء:
اللهم بلغنا رمضان وأعنا فيه على الصيام والقيام وعلى قراءة القرآن، اللهم نسألك أن ترفع عنا الوباء اللهم فرج عننا الهم واكفنا شر ما نخاف ونحذر اللهم لانضام وأنت حسبنا ولا نفتقر وأنت ربنا فاصلح لنا شأننا كله ولاتكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك اللهم ارزقنا حياة خاليًا من الهموم والأعباء مليئًة بالراحة والسلام اللهم اجعل لنا من أمرنا فرجًا ومخرجًا ويُسرًا اللهم نسألك باسمك اللطيف أن تلطف بنا في القضاء كما نسألك اللُطف بنا إذا أسرفنا على أنفسنا في حقك كما نسألك اللطف بنا إذا وقفنا يوم القيامة بين يديك وامنن علينا بالخير والرضاوالبركات.
والحمد لله رب العالمين
[1] من الأمانة العلمية الإقرار أني استفدت عناوين هذه الفروع- (وهي: كمال الاستعداد، جمال الاستمداد، تحريك أشواق الفؤاد، مكملات الزاد) -من خطبة بديعة للداعية الدكتور عادل بانعمة بعنوان مفاتيح النجاح الرمضاني؛ وزدت عليها عددا من الألفاظ والمباني، فحقه لسبقه مني الدعاء، وأتمثل لذلك قول الإمام ابن مالك الأندلسي رحمه الله:
وهو بسبق حائز تفضيلا مستوجب ثنائي الجميلا
والله يقضي بهبات وافرة لي وله الدرجات الآخرة
[2] (زاد المعاد في هدي خير العباد:2/30)
[3] (صفة الصفوة:4/170)
[4] (صفة الصفوة:2/255).
[5] إحياء علوم الدين لحجة الإسلام الغزالي 1/234
[6] نفس المصدر
[7] نفس المصدر
[8] نفس المصدر