تؤكد البوادر الجديدة أن عالم ما بعد جائحة كورونا سوف يختلف كثيرًا عن عالم ما قبلها، وكذلك استراتيجيات صناعة الإعلام لن تكون كما كانت قبلها، حيث فرضت الجائحة أن يكون الإعلام على شكل تفاعلي، ورقمي وفوري ولحظي. وكشفت الجائحة، عن حاجة الحكومات إلى أن تؤمن باستراتيجيات الذكاء الاصطناعي، فالإعلام الرقمي لعب الدور الأكبر في التوعية بالآثار المترتبة على فيروس كوفيد المستجد، وعمل على استنهاض روح المسؤولية، واحترام الإجراءات، والتدابير الوقائية، التي تُعلن عنها الجهات الرسمية، لمواجهة ومحاصرة الوباء، في صورة تُبرز تحمله للمسؤولية الوطنية في تعامله مع أزمة الجائحة، ومن جانب آخر وضعت الإعلام الرسمي أمام اختبار قوي في التعامل مع الوعي العام، ومع الشائعات، التي انتشرت مع بداية الجائحة، وفي ذلك إشارة إلى أهمية تفعيل دور الإعلام الرسمي، في سبيل مواكبة التطورات في استراتيجياته المختلفة.
ولقد كان لدور وسائل الإعلام الرسمية دورًا في نقل الأخبار الإيجابية عن حالات الشفاء، وعن نجاح جهود الحكومات في احتواء الفيروس، ومن جانب آخر ركزت على أخبار الأفراد، الذين يتعرضون للعقاب جراء اختراقهم للإجراءات المفروضة، كي يتجنب الآخرين الوقوع في نفس التجاوزات، واهتمت بالأبعاد النفسية المرتبطة بانتشار الوباء، والعزل الاجتماعي والحجر المنزلي، في سبيل تخفيف التداعيات النفسية المرتبطة بالأزمة، بتقليل حدة التوتر والخوف المرتبطة بإجراءات الحجر الصحي، أو الشعور بالخوف والهلع، الذي ينتاب الأفراد خشية الإصابة بالمرض.
ومن الجدير بالذكر أن الأزمة لا تنتهي بانتهاء الفيروس، فمن المهم أن تضع الحكومات خططًا للتعافي في مرحلة ما بعد الأزمة، وأن تتضمن استراتيجيات جديدة للتعامل مع طوارئ الأوبئة وإدارة الأزمات، وتعادل أهمية هذا الإجراء أهمية التعامل الفعلي مع الوباء نفسه، حيث يتعين على الحكومات تبني سياسات مستقبلية واضحة؛ لتحفيز النمو الاقتصادي، واستراتيجيات إعلامية جديدة في سبيل تحفيز هذا النمو، والحد من الظواهر الاجتماعية والنفسية المترتبة على الأزمة.
وتفرض الأزمة على الإعلام الرسمي أن يكون أكثر صراحة في تعامله مع الأزمات، فإن محاولات التستر المبكرة، التي قامت بها السلطات الصينية، قد أدت إلى إثارة الغضب الشعبي إزاء ردة فعل الحزب الشيوعي الصيني الحاكم على الأزمة، فقد لجأ إلى الدعاية كجزء من محاولته لإدارة الأزمة، والتقليل من تداعياتها السلبية، وقد اقتضى ذلك سيطرته الفاعلة على الخطاب في منصات وسائل الإعلام الرسمية، ووسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة للترويج لروايته الخاصة بنجاح الصين في مكافحة الوباء، والانتصار عليه، ولم يكتف بتطبيق هذا النهج على الصعيد المحلي، وإنما نشره أيضًا على الصعيد العالمي، للدعاية لقدرات الصين الحاسمة في الانتصار على الوباء، وتسليط الضوء على التضحيات البطولية والإدارة الفعّالة، التي اضطلعت بها الحكومة الصينية في التعامل مع هذه الأزمة الصحية، ولعبت المنصات الإعلامية الصينية، الرسمية وغير الرسمية، دورًا رئيسًا في نشر سردية الحزب الشيوعي الصيني؛ للتأكيد على قدرة النظام الحاكم على السيطرة على الوباء، مشيدة بالإجراءات السريعة للحكومة المركزية، وقامت بحملة دعائية تهدف إلى إظهار تضامن الدولة والجماهير في مواجهة الأزمة المترتبة على الجائحة. وهو ما يؤكد على ضرورة التزام الإعلام الرسمي بالمصداقية والشفافية، والوضوح في نقل الصورة كما هي للجمهور، وتوضيح الحقيقة، التي تُعدُّ من أبجديات مواجهة الأوبئة والجوائح.
ويؤكد ذلك على ضرورة أن تبحث وسائل الإعلام والصحافة والاتصال والتواصل عن استراتيجيات جديدة لمواجهة تداعيات ما بعد كورونا من شتى الزوايا، ومن أهم أسلحتها حملات التوعية الصحفية والإعلامية، والتي لابد أن تتوفر فيها دقة المعلومات، ومحاربة الشائعات، لكون أنها أخطر من الكورونا ذاتها. وقد أدى انتشار وسائل التواصل الاجتماعي إلى أن يسهم الجمهور في صنع المعلومات والمحتوى الإعلامي، وهو الأمر الذي ألقى على الصحفيين ورجال الإعلام مسؤولية التدقيق في المعلومات، والإلتزام بالموضوعية والحيادية في نقل الأخبار، ونشر الحقيقة كما هي؛ لكون أن البديل يعني فقدانهم لمصداقيتهم، ويفرض على الحكومات أن توفر لهم الإستراتيجيات اللازمة لتقديم إعلام صحي يقود إلى مستقبل خال من الجوائح والأوبئة والطواعين، التي يجني بها الإنسان على نفسه جهلًا، أو تجاهلًا للسلوك الصحي القويم.
بيد أن الإعلام الحديث مثل شبكات التواصل الاجتماعي فشل في اختبار المصداقية، وخاصة فيما يجري الحديث عنه من جوانب سلبية، ولاسيما نشر أخبار مفبركة، وشائعات مغرضة، وأحداث كاذبة، والسعي لبث الخوف والذعر في نفوس الناس، الذين وضعتهم الأزمة في حالة من القلق والتوتر، وبالتالي يتوجب على الإعلام أن يمتلك استراتيجيات تواكب هذا التطور بمعزل عن التخبط، ومن ناحية أخرى يتوجب عليه استحداث طرق واستراتيجيات إعلامية جديدة في التعامل مع تطورات ما بعد أزمة كورونا، لا أن يأتي بطرق تقليدية، ويعمل على تطبيقها في سياق جديد، بل بالتخطيط لإستراتيجيات توعوية إعلامية جديدة؛ تتواكب مع التطورات الإليكترونية، في عصر الفضائيات والإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي، وقد يستفيد في ذلك من خلال قراءة عامة للأحداث، والتغطيات الإعلامية في مختلف الدول؛ باعتبارها تجارب يتوجب عليه الاستفادة منها؛ كما يتوجب الرجوع للتاريخ، وقراءته، ووعي دروسه جيدًا؛ لتفادي الأخطاء السابقة في الحاضر والمستقبل.
وانطلاقًا من هذا التأطير، فإن الإعلام الرسمي يجب أن يتبنى استراتيجيات إعلامية جديدة تُبنى على التركيز على التغطية الشاملة والمستمرة للجائحة وتداعياتها في الحاضر والمستقبل، باعتبارها حدثًا لا مثيل له يمر به العالم والإعلام المعاصر، وضرورة التركيز على الجانب الإنساني المتعلق بظروف العاملين في المجال الصحي، وتقديمهم كمحاربين في الجبهة الأمامية، مدافعين عن الشعوب والأمم، والاهتمام بالأثار الاقتصادية والاجتماعية والجيواستراتيجية والجيوسياسية للجائحة، وتوقعات مستقبل العالم من حيث الأنظمة السياسية، والعلاقات الدولية، والتنمية الاقتصادية، ويجب عليها تقديم الأجندة الصحية على الأجندة السياسية، أثناء التغطية للجائحة وما بعدها، والاهتمام بالجانب الكمي من خلال نشر آخر التحديثات على الصعيد الداخلي والخارجي، والاهتمام بالآثار الاقتصادية على الأسواق المالية، ومعدلات البطالة، والمخصصات المالية، التي وفرتها الحكومات لمواجهة تداعيات الأزمة، وتوفير المستلزمات الطبية العاجلة، بالإضافة لجعل الجائحة في صدارة الأجندة، من خلال تعديل خريطة برامجها؛ لزيادة حجم التغطية، وإنتاج برامج جديدة أو فقرات جديدة، أو تخصيص حلقات من برامج قائمة لتناول الجائحة وتداعياتها في المستقبل، أو افتتاح صفحات جديدة عبر الويب تضم مستجدات الجائحة، كتجسيد لإعلام الأزمات، الذي يقتضي ترتيبات جديدة على مستوى الأجندة، وتغييرات في البرمجة إلى أن تزول الأزمة، تماشيًا مع دور الإعلام في التفاعل مع الأحداث والسعي لجذب الجمهور. وهنا، تبدو المحددات التي تحكم طبيعة التغطية وفعاليتها أكثر عمومية وأقرب إلى ضرورة القيام بالواجب من دون بحث عن تميز يُحدث فارقًا في نظرة الجمهور، لأن الفارق في هذه الأزمة ذات الطابع الصحي يأتي من وجود الإعلام الصحي المستدام، الذي يُهئ الجمهور لمثل هذا اليوم الاستثنائي في تاريخ البشرية.
فالتغطية الإعلامية للجوائح والأوبئة الصحية يجب ألا تكون تغطية أزمة، إنما تكون تغطية مستدامة مستمرة؛ تهدف إلى تقديم صورة إيجابية للتعامل مع أية جائحة أو وباء آخر في المستقبل، وفق استراتيجيات مدروسة جيدًا؛ تتفاعل من الجمهور من خلال الاستبيانات عن أهم الموضوعات، التي يرغب في أن يستمع إليها أو يقرأ عنها. وهذا يقتضي أن ينهض الإعلام بدور رئيس وفعَّال في المجال الصحي؛ كي يُجنب البشرية تبعات وويلات تفشي الأمراض، التي تستطيع أن تهزم الأنظمة الصحية الوطنية والدولية. والاعتبار من جائحة فيروس كوفيد المستجد في أهمية الصحة في حياة الناس، وأن الأمراض يجب أن تكون العدو، الذي يوحِّد الجميع في سبيل مكافحته ومحاربته بالعلم والإعلام، وكافة أشكال التواصل الإنساني والإليكتروني. وأن تهدف الاستراتيجيات الإعلامية الجديدة إلى أولوية وجود إعلام صحي مستدام يوكل أمره لأفضل العناصر البشرية، التي تجمع بين المعرفة والمهارات، والتكوين في المجالين الصحي والإعلامي، وحبذا لو كان تكوينًا يدمج بينهما. ووفق هذا يجب أن يصبح الإعلام الصحي أساسًا للعمل الإعلامي؛ تستند إليه كافة المجالات، التي يهتم بها المحتوى الإعلامي المعاصر.
وإذا كانت شبكات التواصل الاجتماعي في طريقها نحو الهيمنة على اهتمامات المتواصلين من حيث النشر والتلقي والتفاعل، فإنه يتوجب على وسائل الإعلام التقليدية أن تؤسس لاستراتيجيات جديدة تستغل هذه الشبكات في نشر محتوى إعلامي صحي محترف يتلاءم مع الخصائص التواصلية لهذه الشبكات؛ حيث إن لكافة القنوات الفضائية والصحف والدوريات حسابات عبر شبكات التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، يوتيوب، إنستجلرام، وغيرها)، ولكنها في الغالب تُستغل للترويج لبرامج القناة، بدلًا من أن تقدم محتوىً خاصًّا بمستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي. وعندما تضطر لتغطية الجوائح والأوبئة، عليها أن تأخذ الأمر بالعزم اللازم، وتعقد الشراكة الفاعلة مع الجهات المعنية لإعلام الناس بما يجب أن يعرفوه بعيدًا عن الإرباك، والنشر غير المسؤول، والمفتقر لأخلاقيات المهنة، الذي قد يجد طريقه إلى شبكات التواصل الاجتماعي، ولا تكتفي بتسليط الأضواء على بعض ما يدور في المجتمع، وتنشغل بما لا فائدة فيه، وتقديم برامج على مستوى يُشكِّل رافدًا لإعلام صحي فعَّال ومستدام؛ بل وإنشاء أقسام الإعلام الصحي بالصحف والقنوات الفضائية، كما هي حال الأقسام الرياضية وغيرها، وتأهيلهم للقيام بدور المراسل، وتحرير المحتوى الصحي وفق استراتيجية إعلامية تهدف إلى تأسيس إعلام محترف، ومضطلع بأدواره الحيوية.
ويجب أن تأخذ وسائل الإعلام المعاصرة العبرة من تجربة تغطيتها لجائحة فيروس كورونا، وتعيد النظر في فهمها وتعاطيها مع الإعلام الصحي حتى لا تتكرر مثل هذه الجائحة في عصر تدَّعي فيه البشرية أنها خطت خطوات متقدمة في النمو والتطور؛ بينما يصعب عليها الاستعداد لمخاطر تهددها منذ القِدَم، وتكرر أخطاءها التواصلية. وعلى وسائل الإعلام المعاصرة أن تنبِّه المجتمعات وقياداتها إلى أهمية الإعلام الصحي، والفوائد المطلقة، التي تأتي من قِبَله، وأن ما يُنْفَق عليه لا يُقاس بما قد ينتج عن غيابه أو إهماله. كما أن الفضائيات الإخبارية وغيرها من وسائل الإعلام مدعوة للاستثمار في مجال الإعلام الصحي، من خلال تعزيز مواردها البشرية بأفضل الكوادر الفاعلة في المجالين الصحي والطبي، وتوفر لهم الإمكانيات اللازمة لتقديم إعلام صحي يقود البشرية إلى مستقبل خالٍ من الجوائح والأوبئة، التي يجني بها الإنسان على نفسه جهلًا أو تجاهلًا للسلوك الصحي القويم.
ويجب أن توجد الفضائيات والدوريات من صحف وجرائد ومجلات برامجًا وأبوابًا ثابتة تهدف إلى التوعية الصحية بمخاطر الأوبئة والجوائح والطواعين، وتقدم محتوى إعلامي جديد وفق استراتيجيات مدروسة يعمل على التوعية بكيفية التعامل مع مثل هذه الأزمات عندما يتعرض لها المجتمع، ومن ثم فإن المرحلة التاريخية الحالية، تعتبر مرحلة فاصلة لمستقبل سيكون فيه المستقبل للإعلام، الذي سيهتم بمثل هذه البرامج التوعوية التثقيفية، والذي سيوظف وسائل التواصل الاجتماعي في برامجه، ويستفيد من صفحاته على شبكة الإنترنت ويتخذ منها أداة للتفاعل مع الجمهور، فالمستقبل في ظل ما بعد العدمية هو لتكنولوجيا البرمجيات الحديثة المتطورة في عصر ثورة المعلومات.