إنّ ضرورة الإيمان بجميع أنبياء الله تعالى ورُسُلِه الكرام عليهم السّلام، ركن من أهم أركان عقيدة الإسلام، كما نهى الحق عن التّفرقة بينهم، فقال {لا نفرِّقُ بين أحدٍ من رُسُلِه} البقرة، آية (285) . ويفرحُ المسلمون بيوم ولادة كل منهم، كما يُعدُّ الاحتفال بهم تذكير بأيّام الله، كما ورد في نص هذه الآية القُرآنيّة { وذكِرهم بأيّام الله } إبراهيم، آية (5)، شُكراً لله تعالى على نعمة إرسالهم هداية للبشريّة ونوراً ورحمة من لدنه.
وعيسى عليه السّلام رسول من أُولي العزم من الرُّسُل { ورسولاً إلى بني إسرائيل} آل عمران، (49) أرسلهُ الله الواحد الأحد إليهم ليدعوهم إلى عبادته، وأيّده بالمعجزات الدّالَّة على صدقه وأتاه الإنجيل، ويحتفلُ المسيحيُّون كل سنة بعيد ميلاد المسيح عليه السّلام، يوم 25 ديسمبر، والذي يُعرفُ بيوم الكريسماس Christmas Day والذي يُثارُ حوله الخلافُ بين المسلمين من حيثُ الحِل والحُرمة، الأمر الذي جعل الأخ المسيحي يرى في امتناع المسلم عن تهنئته بعيده مساس بمشاعره. ونظراً لاختلاف العقيدتين بين الإسلام والمسيحيّة، دفعني الفُضُول إلى البحث في أصالة الجذور التّاريخيّة لهذا اليوم التّاريخي لأقف على الأدلّة العِلميّة النّاطقة بمشروعيّة هذا الحدث، فوجدتُ أنّ النّصارى الأوائل وإلى اليوم مختلفون حول ميلاد المسيح؛ إذ يتعذَرُ تحديد اليوم والشّهر الذي وُلِد فيه، فوجدت أنّ الاحتفال بميلاد المسيح يوم 25 ديسمبر، هو يوم الإله الوثني قولاً واحداً، وهذا ما قرأتُهُ في كتاب دائرة المعارف الكتابيّة، مج 4، ص 258، تحت عنوان اليوم والشّهر، قول:” لا يمكن أن نُحدِّد بدقّة اليوم والشّهر اللذين وُلِدَ فيهما يسوع، فقد كانت هناك معارضة شديدة جدّاً في الكنيسة الأولى للعادة الوثنيّة في الاحتفال بأعياد الميلاد،وربّما كان سبب اختيار الكنيسة الغربيّة ليوم 25 ديسمبر، هو أنّ الرّومان كانوا يحتفلون في ذلك اليوم بعيد إله الشمس، كما كان الانقلاب الشّتوي يحدُثُ في هذا الوقت. وقد اختارت الكنيسة هذا اليوم لتحويل العادات والممارسات الوثنيّة إلى يوم لعبادة الرّب يسوع المسيح. وقرأتُ أيضاً ما جاء في كتاب الديانة المصريّة القديمة، لمؤلفه روسلاف تشري، في ص 206، يقول فيه: ” بل إنّ اختيار يوم 25 ديسمبر باعتباره يوم مولد المسيح واحتفالات أعياد الكريسماس قد حفظ العيد الشمسي القديم (مولد رع) الذي كان يُطلقُ عليه في اللغة المصريّة مسورع Messore”. أي أنَّ الديانة المسيحيّة تُشبِهُ الديّانة المصريّة القديمة في احتفالها بعيد ميلاد الشَّمس التي لا تُقهر، أو رع هذا. وهناك مراجع كثيرة تؤكد هذا الاعتقاد، ولا يتَّسعُ المقام لذكرها كاملة.
والتَّساؤل الكبيييير الذي يتبادر إلى الذِّهن هو: هل من الصواب أن يَعزِل المسلم نفسه في هذا اليوم التّاريخي عن العالم الذي أصبحت فيه الثَّقافة الغربيّة هي الغالبة والمهيمِنة، والتي مكّنته من فرض عالميّة السَّنة الميلاديّة على البشريّة جمعاء، ويتغنّى هو عاطفيّاً بالسَّنة الهجريّة دون أن يجتهد في الأخذ بأسباب التَّمكين في الأرض كما فعلَ الغرب لفرض عالميتها؟ أم أن الأفضل له أن يُفعِّلَ مبدأ “لكم دينكم ولي دين” ، وأن يتَّبع منهج النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وينطلق منه مُصغياً لما قاله في حق النّبي عيسى عليه السلام: {أنا أولى النَّاس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، ليس بيني وبينه نبي} رواه البخاري؛ ويدعُو كل ربّ أُسرة أن يفتح في جو أُسري دافئ إنساني حضاري راقي وثقافي المصحف على سورة مريم في هذا اليوم الذي هزّ وجدان النّاس عن جهل أو عن وعي، ليكلّم أولاده ومعارفه عن يوم السّلام، الذي لم ينطق به مسيح الإنجيل، وإنّما نطق به مسيح القُرآن الذي قال عن نفسه: { والسَّلامُ عليّ يوم وُلدتُ ويوم أموتُ ويوم أُبعثُ حيّاً} مريم، آية 33، وُيبيّن لهم آداب الاحتفال بهذا اليوم الذي يُميّزُ احتفال المسلم به عن غيره من الشُّعُوب المحتفِلة التي أساءت في طريقة احتفالها إلى هذا النّبي العظيم نفسه، وليس من المنطق والعقل أن يعزِل المسلم نفسه وأُسرته بحُجَّة حُرمة الاحتفال بعيد النَّصارى، ويترك مساحة كبيرة ترتع فيها أخطر عقائد النّصارى؛ علماً بأنَّ السكوت عن ذلك شهادة من المسلم نفسه على صحة عقيدة التّثليث، وغيرها من المعتقدات التي تُعشِّش في فكر الصغار والكبار كالإيمان بشخصيّة سانت كلوز Saint Claus الاسم الأصلي لشخصيّة (الأب نويل) Le Père Noel الوهميّة التي لا تُقنعُ عقول بعض الأذكياء من أطفال الغرب أنفسهم،لذلك أوجِّه كلامي هذا لك أخي المسيحي، وأقول لك: نعم أستطيع أن أجتمع معك على مائدة السّلام في هذا اليوم، ولكن أعتذرُ منك كثيراً، لا أستطيع أن أتواجد معك في هذه الأجواء المليئة بالمنكرات المناقضة تماماً لدعوة النّبي عيسى وتعاليمه، والتي لا تُقرُّها جميع الشَّرائع، كشرب الخمر والاختلاط والعُري والسّهر إلى الصبح، لأحتفل معك بابن أطهر نِساء العالم التي لم تكن تُفارق محراب العبادة أبداً، والتي اصطفاها ربُّها وطهَّرها واصطفاها على نساء العالمين. لأنّه لا يُعقلُ إطلاقاً أن يُرسل الله كل الأنبياء بنفس القيم الأخلاقيّة العالية، من إباحة الطيِّبات وتحريم الخبائث، ويُفردُ عيسى عليه السّلام ويستثنيه بهذه المنكرات، وهذا ما يجعلُ المسلم يبحثُ عن جوابٍ شافٍ لسؤالهِ هذا: هل هو احتفال برأس ميلاد السنة، أم احتفال بعيد ميلاد نبي من الأنبياء الأطهار؟
كما أنّني يا أخي لا أستطيع بأيِّ حال من الأحوال أن أتبنّى ما يعتقدُهُ النّصارى في نبيِّهم؛ لأنّ قصة النّبي عيسى عليه السّلام وأُمّه مريم العذراء تحتلُّ مساحة كبيرة جدّاً في القُرآن الذي أؤمن به، وبالتّالي لا أستطيع أن أُقرَّك على عقيدة أنكرها هو نفسه عليه السّلام، والذي قال الله على لسانه: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قُلتَ للنّاس اتّخذوني وأُمّي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ إن كنتُ قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنَّك أنت علاَّمُ الغيوب 116ما قلت لهم إلاّ ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربِّي وربّكم وكنت عليهم شهيداً ما دُمتُ فيهم فلمّا توفّيتني كنت أنت الرّقيب عليهم وأنت على كلّ شيء شهيد117إن تُعذِّبهم فإنّهم عبادُك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم118} (المائدة)
واعلم يا أخي أيضاً أنّ هذا النّبي الكريم الذي قوّلته ما لم يقُل سوفَ يُحاجِجك يوم الفصل وليس بالهَزل، ويرفض بهذا السّبب القوي الشَّفاعة لك عند ربِّك في وقت ضيقك وشدَّتك وأنت في هذا اليوم العَصيب، ويُرسِلك إلى خاتم الأنبياء والمرسلين الذي يقول لك أنا لها، أنا لها.
ثمّ إنّ حقيقة وطبيعة عيسى عليه السّلام بيَّنتها هذه الآية الكريمة بشكل ساطع لا مجال فيه للرّيب، إذ يُخاطِبُ الحق نبيَّه صلّى الله عليه وسلّم، فيقول:{ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلاَّ إنّهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} الفرقان، 20.
فهذه الآية الكريمة المحكمة التي قد لا تُلفتُ ذهن قارئُ القُرآن، وقد لا ينتبِه إلى ضرورة الوقوف عندها ليتساءل عن سر هذا الوصف الذي يصفُ الله تعالى به جميع رُسُله، وما يحملُهُ من بُعد عقدي دقيق. لأنّه لو تجاوز القراءة السطحيّة وأمعن النَّظر بعُمق في كلام الله عن أكل الأنبياء تحديداً الطعام والمشي في الأسواق، لأيقن بحق أنّه لا يليقُ أن يُرفعَ نبيُّ شأنه شأن غيرهِ من البشر فوق طبيعته البشريّة الأرضيّة التي خُلقَ عليها إلى مرتبة الإله، علماً أنّ الحق سبحانه وتعالى يقول عنه: {إنّ مثلَ عيسى عند الله كمثل آدم خَلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون} آل عمران، 59. فلا يُعقَلُ يا أخي بعد هذا كُلِّه أن أزُفَّ إليك تهانيَ الخاصَّة، لأُقرّكَ بيوم عيد إله وثني استُبدِلَ بعيد ميلاد يسوع المسيح، وأنا كلّما قرأت قول الله جلَّ جلاله في القُرآن يقشعرُّ بدني من وعيده، لمَّا أسمعه يقول في سورة مريم:{ وقالوا اتّخذ الرّحمن ولداً88 لقد جئتم شيئاً إدّاً 89 تكادُ السَّموات يتفطّرن منه وتنشقُّ الأرض وتخِرُّ الجبال هدّاً 90 أن دعوا للرّحمن ولداً 91 وما ينبغي للرّحمان أن يتَّخِذ ولداً 92}.
فيا ابن أبي آدم، ويا ابن أُمّي حوَّاء، أُخوّتنا في الإنسانيّة تجعلني أزُفُّ لك تهاني السّلام باسم الإسلام، هذه العقيدة التي تأمرني أن أنصح نفسي وأنصحك بدعوة الحق سُبحانه وتعالى عباده إلى التّعارف والتّآلف والتَّعايش فيما بينهم في جو آمن وسِلمي بعيداً عن مظاهر الغلو والتطرف الفكري، وعلّمتني أنَّ تقوى القُلوب أساس علُو ورِفعة العبد وتميُّزه عند ربِّه، كما جاء في قوله سُبحانه: {وجعلكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم} الحُجُرات، آية 13، وتعلّمتُ من عقيدتي كذلك ضرورة التّعامل بمبدأ البر والقسط مع من يُخالفني في الدّين، فقد يكون جاراً لي، فوجب عليّ أن ألتزِمَ معهُ خُلُق حُسن الجِوار، أو قد يكون الطبيب الذي مكَّنه الله من إنقاذ حياة أقرب النّاس إلي، أو زميل في العمل، أو غير ذلك من المواقف الإنسانيّة التي تُصادفُنا في حركة الحياة، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلُّ على أهميّة تعزيز جُسُور الحِوار والتّواصل بين الأديان ومُختلف الثّقافات لترسيخ قيم السّلام والعيش المشترك بين الإنسانيّة جمعاء. ويُعدُّ هذا من أهم وأرقى مبادئ الإسلام الحضاريّة في التَّعامل مع الآخر، لقول الحق:” لا ينهاكم الله على الذين لم يقاتلوكم في الدّين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتُقسطوا إليهم إنّ الله يحبُّ المقسطين” الممتحَنَة، آية (8) وبهذا يتحقَّق السّلام في يوم السّلام وفي كل أيّام الله.