{وما كان الله ليُعذِّبهم وأنت فيهم}
لم تكن شخصيّة رسول الإسلام صلّى الله عليه وسلّم عابرة في التّاريخ، بل كان أنموذجاً للكمال البشري والنّبوي، إذ تميّز كل نبيّ بسجيّة حميدة واحدة، وجُمعت باقي السّجايا في شخصيّته الإيمانيّة صلّى الله عليه وسلّم، فكانت فيه رُجُولة موسى، ورحمة هارون، وصبر أيّوب، وجُرأة داوود، وعظمة سُليمان، ووداعة يحي، وتواضُع المسيح عيسى عليهم السّلام جميعاً، وهو النّبي الوحيد الذي أتمّ رسالته الدّينيّة، ولم يتمكن غيره من الأنبياء والرّسُل الكرام من إتمامها.
وإذا كان حبيبُ الحق صلّى الله عليه وسلّم يمتلئ فُؤاده ثُبوتاً حين يُسمعه الله قصة نبي من الأنبياء عليهم السّلام، ويقول له: {وكُلاًّ نقصُّ عليك من أنباء الرُّسُل ما نُثبّتُ به فؤادك} هود، آية 120.
فكيف لا يمتلئ قلب المؤمن قوة ويقيناً، ويهتزُّ شوقاً لسماع قصة سيدنا وحبيبنا النّبي عليه الصلاة والسّلام ؟ إنّ معرفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حق المعرفة أوّل واجبات المؤمن، لقول الحق: {أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون} المؤمنون، آية 69 . لذلك، فما صحّ عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم من أنّه كان يصوم يوم الإثنين لأنّه اليوم الذي وُلِد فيه، واليوم الذي اتّصلت فيه روحه بالسماء، فهمنا أنّ لقضيّة الاحتفال بالمولد النّبوي الشّريف أصل في سُنّته صلّى الله عليه وسلّم، واتّضحَ لدينا أنّه كان يحتفل بعيد مولدِه كل أسبوع، وليس كل سنة فقط. فالاحتفال بمولد سيّد الخَلق صلّى الله عليه وسلّم يكون في إطار قول الحق سبحانه وتعالى {وذكّرهم بأيّام الله} إبراهيم، آية 5. فبعثتة صلّى الله عليه وسلّم يوم، وهجرته يوم، وانتصاره على خصومه في كل غزوة يوم، ويوم ميلاده هو أبُ الأيّام كلّها، وهو الأصل الأصيل الذي تفرّعت عنه سائر الأيام الحافلة بسيرته العطِرة، التي يجب تذكير النّاس بها. ومنه، فإن اختلفت طريقة احتفال المسلمين فرحاً بنبيّهم ببعض العادات المتعارف عليها بينهم، كإعداد الطعام مثلاً، فلا يُعدُّ ذلك بِدعة من البِدع السيّئة، لأنّ الإطعام له أصل في السنة؛ فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرِم ضيفه. وكذلك رفع الزّينات وإلقاء الكلمات الطيّبة وتوزيع الحلويات في هذا اليوم السّعيد، هو من باب إدخال السُّرور والبهجة على القلوب الذي يُعدُّ من أعظم العبادات قبل الفرائض الخمس. ولم يكن احتفال النّبي صلّى الله عليه وسلّم بمولده بدافع التّباهي والمفاخرة؛ وإنّما هو أدبُ شُكره الله الذي اختاره واصطفاه ليكون رحمة للعالمين. ولقد امتدحَ الصحابة رضي الله عنهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالأشعار الهادفة والجميلة أمامه ولم يُنكِر عليهم. ففكرة الاحتفال إذن ليست مقصودة بذاتها، وإنّما هي وسيلة إلى هدف أسمى. ثمّ إنّ الأصل في الأشياء الإباحة، والمولد النّبوي ليس عبادة يجب أن تُؤدّى من باب الوجوب والإلزام، يُؤجرُ فاعلها ويُؤثمُ تاركها، وإنّما هو ممارسة لنشاطات اجتماعيّة، مشفوعة بآيات قرآنيّة، وبسنّة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم، فهي من ضمن محاسن العادات يُتوخّى منها تحقيق خير ديني، ولا تُعدُّ من السنن السيّئة إذا خلت من كل الأمور المحظورة شرعاً.
وإذا كان الحق سبحانه وتعالى نفسه أثنى على حبيبه ومدحه وباركه حيّاً وميّتاً طوال الدّهر، وتبعته في ذلك ملائكته، بقوله: {إنّ الله وملائكته يصلّون على النّبي يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما} الأحزاب، 56. فهل يمكن اعتبار ثناء الملائكة للنّبي واستغفارها له بدعة ابتدعوها، ولا علاقة لها بالعبادة الحقّة؟ فما المانع إذن من ذكر مولد الرّسول الأعظم والثّناء عليه ومدحه وهو الشّفيع لأمته يوم القيامة.
ثمّ إذا كان أبا لهب يُخفّفُ عنه العذاب في قبره لأنّه أعتق جاريته ثُويبة لمّا بشّرته بمولد ابن أخيه؟.
فهل يُعقل أن تمرّ ذكرى أعظم العُظماء مُرور الكرام، ونعزِل أنفسنا عنها ونُسلم أنفسنا لأجواء سوداء، تُخيّمُ عليها الأحزان، ويغفلُ المسلم عن جوهر وروعة هذا الدّين، وينسى أنّه دين الحياة، ودين العطاء، ودين الحضارة والانفتاح، ودين الإحساس بالآخر واحترامه، ودين التّواصي بالحق.
إنّ عجز المسلم عن النّظر إلى الإسلام كمنهج كامل وشامل يُغطي كل جوانب حياة المسلم الدّينيّة والدنيويّة، هو الذي أدّى به إلى الاحتفال بذكرى مولد الحبيب صلّى الله عليه وسلّم احتفالاً فلكلوريّاً مُعتبراً إيّاهُ جزء من تُراثه وعاداته وتقاليده، في حين أنكر غيره مشروعيّته بشدّة، وهذا إن دلّ على شيء، فإنّما يدل على عدم التزام المسلم فن الفكر الوسطي الرّاقي والحضاري الذي تميّز به هذا الدّين الخالد، إذ لم يشأ الحق سُبحانه وتعالى أن يذكره في أوّل البقرة أو آخرها وإنّما وسطها، فقال: {وكذلك جعلناكم أُمّة وسطاً لتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرّسول عليكم شهيداً} البقرة، آية 143. دين الإسلام في جوهره دين الشّعائر والمشاعر وليس أُسطورة من الأساطير الغابرة، وما الاحتفال في حقيقته إلاّ تعبير عن الشّوق، فلا مانع من اجتماع العلماء والمفكرين والمشايخ والمقرئين وكل عُشّاق الحبيب صلّى الله عليه وسلّم للتّعبير عن ما يخالجُ صدورهم من عمق حبّهم لسيّد الخلق، فإنّ لكل تعبير عبير، ولكل زهرة أريج. والحث على ضرورة الاقتداء والاتّباع، لأنّ الاقتداء قرار يجب أخذه لتجديد العهد مع الحبيب صلّى الله عليه وسلّم، وإعادة النّظر في واقع أُمّته وما آلت إليه، إذ لو كان الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في روح المسلم ووجدانه لعمل على اتّباع خُطاه، ولاهتمّ بتطبيق سُنّته في أُسرته، وفي أفراحه وأحزانه، وفي مصدر كسب أمواله، وفي كل حركة من حركات حياته، عملاً بقول الحق سبحانه وتعالى:{ما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} الحشر، آية 7. ولما لحق العذاب بأُمته، ولما استُضعفت في الأرض، ولما احتُلّت أراضيها، ونُهبت ثرواتها، وقتلت شُعوبها بسبب ودون سبب. لو كان الحبيب صلّى الله عليه وسلّم موجود في قلبه وعقله وفي كيانه كلّه، لاغتنم ذكرى مولده صلّى الله عليه وسلّم وذكّر من تنفعه الذّكرى بتجديد العهد والتفكير في النُّهوض لإعادة أمجاد هذه الأُمّة التي كانت خير أُمّة أُخرِجت للنّاس، ولكان التّواصي بالحق والخير من أساسيّات اجتماع المسلمين جميعاً في هذه المناسبة العظيمة؛ ولما كان تديّنهم في واد، وواقع حياتهم ومعاشهم في واد آخر، لقول الحق: {وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم} الأنفال، آية 33. لذلك وجب أن يكون الحبيب في حركة حياة المسلمين ثلاثمئة وخمسة وستون يوماً، وليس مرّة في السنة يشتدُّ فيها النّزاع بين مُؤيّد ومُعارض.
حقيقة تعذّبنا كثيييييييييييراً وأكثر يا رسول الله لما عزلناك عن حياتنا وواقعنا، أزمنة طويلة حالت دون رؤيتنا لك؛ نُحبُّك ونريد قُربك، اشتقنا إليك يا سيّدي اشتياق الجِذع وحنينه إليك؛ ونُحب أيّامك كلها، ويوم مولدك أروع الأيّام.
د. سجية حمليل