تختلط الرّؤى، وتتعالى الأصوات، وتتداخل الأدوار، وتتشابك الخطوط، في ظلّ الإفرازات المعاصرة، والطّوفان الإعلاميّ الطّاغي.
فكثيرًا ما نسمع: (هو يقول)، و(هي تقول).
هو يقول: تؤرّقني الأنوثة المتهالكة، عندما تتداعى (أنثى العصر) من علياء الأنوثة، وعفّتها، وسحرها، وعذوبتها، إلى سلعة استهلاكيّة استعراضيّة، مصطنعة آنيّة، تباع وتُشترى في فضاء الانحطاط والرّذيلة بأبخس الأسعار.
تؤرّقني، وتكدّر صفوي، وتضعف انتعاش روحي، بل تشوّه جمال الحياة نفسها؛ عندما ترحل المرأة (الأنثى) رحيلاً كلّيّاً، من خصوصيّة أنوثتها الّتي فطرها الله عليها، مسلوبة الإرادة إلى عالم الجنس الثّالث (الجنس الحائر، الجنس الرّماديّ)، المنقلب على منظومة الحياة الفطريّة الطّبيعيّة الّتي خلقها الله، وأبدعها لسعادة الإنسان نفسه، وللعمل على إفسادها وتلويثها؛ دون اعتبار للغاية من خلق الإنسان؛ عبادة الله تعالى، وعمارة الأرض، بقوانين التّسخير الّتي وضعها له؛ ودون التفات للعدوّ السّاكن فينا، الّذي حذّرنا منه حين سجّل في كتابه العزيز حكاية عنه: “لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا”[النّساء: ١١٨ – ١٢٠] .
وتتعالى الأصوات وتتباكى؛ لتنادي (بالمساواة والمساواة) حتّى في الخصوصيّة البيولوجيّة، والنّفسيّة، والوظيفيّة، والفطريّة، فلم يعد ضمير (هو أو هي) معروفًا في معجم الحياة الاجتماعيّة، فالزّواج ما عاد من أزواج وأقطاب مختلفة، بل قطب واحد لا ثاني له.
وذلك الصّراع والصّدام مع تناغم النّظام الكونيّ، كما يشاء اللّطيف الخبير ويريد: “وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا” [النّبأ: آية8]، “وَلَيْسَ الذّكَرُ كَالاُنْثَىَ” [آل عمران: آية36]، والعلم، والواقع، والشّرائع تقول وتؤكّد.
هو يقول: تخاطب غرائزي بجسدها، الّذي تلغي به تفاصيل لغة القلوب والعقول، وتقصيها، فإذا ما تحدّثت بلغة نجوم الفنّ تجاوزت الرّقيّ، والتّسامي، وحروفه السّاحرة، والأهداف العليا، إلى دونيّة الأرض، وجاذبيّتها، وطاقتها السّلبيّة؛ لأغراض ملوّثة، وأدوات مغرضة؛ ظاهرها: الحبّ والدّفء، والفنّ والنّجوميّة الجمال، الحرّيّة الشّخصيّة، وباطنها: أطياف المكر، والخديعة، وتلويث جماليّات الحياة.
تتقمّصها بأدوار آنيّة معقّدة مصطنعة، لتعلن على الملأ أنّ الحياة كلّها؛ ليست إلا عبوديّة جسد، وثقافة صورة طاغية، في عصر الشّاشة الصّغيرة، المزيّفة، والملوّثة للحقائق، وللذّوق العامّ، والاستغراق في العالم الافتراضيّ؛ حيث يتسابق عري الألفاظ، وعري الأجساد، في عصر تسوده ثقافة العري من كلّ عفّة، وحياء، وإقصاء، وإلغاء لكلّ معنى جميل وجليل.
فإذا ما هبطت إلى واقعها، وأدوارها الوظيفيّة، انسلخت من كلّ معنى جميل أعلنته، ومن كلّ ثوب قشيب جاذب لبسته.
فسلام على أهل الدّنيا المغرّر بهم، ووداعًا للأنوثة الفطريّة الإيمانيّة النّقيّة، الصّامدة أمام صنم الفنّ والنّجوميّة وسطوته وقوّته، ومن يدفع به نحو الواجهة؛ ليقود الإنسانيّة، ولن أقول سلام على كوكب الأرض، لأنّ الّذي يديره، ويدبّره بحكمته هو خالق الأكوان: “أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ” [الأعراف: آية54]، ولكن: “لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ” [الرّعد: آية38].
هي تقول: إن كانت المناداة بالمساواة المطلقة بين الرّجل والمرأة لعنة تصيب القلوب والضّمائر والعقول، فإنّ المساواة بين كلّ الإناث، وإطلاق الأحكام العامّة؛ بحيث تتساوى فيه المرأة الرّساليّة العابدة الفاضلة بالمرأة الدّونيّة العابثة، بل تتقدّم عليها في مواقع الحياة الأسريّة والاجتماعيّة، فإنّ ذلك يعدّ لعنة أخرى، تفوقها أو توازيها.
فإذا ما تحدّث بعض الرّجال، أصحاب الهمّ الرّساليّ الدّعويّ، ومن توسّمنا فيهم الخير عن المرأة، تحوّل الحوار إلى سجال انفعاليّ عاطفيّ إقصائيّ؛ لسحب نموذج المرأة العابثة على النّساء كلّهنّ دون استثناء، بل قد تغلب عليه أحياناً شيطنة المرأة العفيفة قبل العابثة، وإقصائها عن مواقع الحياة والتّمكين، بل يضع أبسط الزّلّات على مشرحة الاتّهام، ومجهر التّكبير، ويكاد يعفيها من كلّ دور فاعل في صناعة الحياة والشّهود الحضاريّ، متغافلًا عن أنّ ذلك يشلّ أحد جناحي الحضارة، فاليد الواحدة محال أن تصفّق، وكأنّما رسالته المبطّنة أنّ المرأة قد انحسر دورها بالوظائف والمهام الجسديّة.
والمؤسف أنّ البعض –ولا أعمّم هنا- إذا ما سألته عن العابثات، كان على حذر من تشويه سمعتهنّ، ولربّما -في الوقت ذاته- نرى الثّلّة العابثة من الرّجال والنّساء ممّن ينادون في الغدوّ والآصال بشعاراتهم البرّاقة المغرضة في باطنها، من حقوق المرأة، والحرّيّة المطلقة، والمساواة، وغيرها من الشّعارات الّتي تنشر الطّاقة السّلبيّة، وتخدم الأغراض العبثيّة الخبيثة، وتخدش الحياء، وتفسد الأذواق، وفي الوقت ذاته تزيد المرأة الفاضلة وهنًا على وهن، في ظلّ تخاذل دور الرّجل الرّساليّ.
وفي الطّرف المقابل لها، تزداد المرأة العابثة غطرسة، وجبروتاً، وعبثيّة؛ لمَ لا؟ فقد تفنّنت وأبدعت في صور الانحطاط الأخلاقيّ، والانسلاخ الحضاريّ من كلّ قيمة سامية، ما لم ترَ عشر معشاره جاهليّات الأمم كلّها في عمق التّاريخ الإنسانيّ وحاضره منذ قرون خلت، في الوقت الّذي تُحرم المرأة الرّساليّة الملتزمة من أبسط حقوقها الّتي منحها الله إيّاها، ويصادر ما وهبه الله لها.
حتّى إنّ الجاهليّة الأولى منحت المرأة حقوقًا أكثر بكثير من الجاهليّة الكبرى المعاصرة، فها هي أطهر خلق الله تطلب الزّواج من أعظم الخلق، وقد دنت من الأربعين، وسبق لها الزّواج مرّتين -مع صغر سنّه، وجماله، وروعة أخلاقه-، فلم يكن مستنكراً، أو جرماً اجتماعيّاً، وهذا قبل البعثة والرّسالة النّبويّة، فإذا ما جاء نور الرّسالة الّذي أضاء أرجاء المعمورة، لتنعم المرأة بحقوقها، وتتربّع على عرش العفّة في رحاب الزّوجيّة الدّافئة، والأمومة الدافقة، وباقي مناحي الحياة الاجتماعيّة، بتناغم منقطع النّظير.
وليسأل التّاريخ عن الأَمَةِ (بَرِيرَة)، ورفضها العودة لزوجها (مغيث)، ووسيطهما نبيّ الرّحمة -عليه أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم-! وليسأل التّاريخ عن وقائع أعظم من الخيال، من الحرّيّة الوجدانيّة والعقليّة، وفق الرّؤية الإسلاميّة، ولكنّها حُجبت في ثقافة القرن الحادي والعشرين، وأُلصقت بالدّين أعراف اجتماعيّة، وثقافة موروثة، عمياء صمّاء، لا أصل دينيّ لها، والعجيب أن يتحدّث الرّجال عن المرأة الرّساليّة، فيما لم يسمح لها بالحديث عن نفسها، حتّى في أدقّ خصوصيّاتها.
ويبقى السّؤال الّذي يثير جدلًا في غور قلبي، وفي رحاب نفسي، ورحاب عالمي المضطرب،
كيف لامرأة استباحت كلّ حرمة أن تحظى بكلّ ما تريد، وامرأة أخرى جاهدت نفسها، ووقعت تحت مطرقتي التّقاليد الوافدة والرّاكدة، ووقفت شامخة أمام هذه الأعاصير العاتية، الّتي لم يسبق لها مثيل، فجاهدت، وكابدت؛ لتنال رضى رحمن رحيم،
كيف لها أن تُصادر حقوقُها الّتي منحها الله إيّاها؟ بل وتحرم من أبسط حقوقها! فمن ينصر المرأة الرّساليّة؟ “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا” [العنكبوت: آية69].