صورة الواقع الذي نعيشه تحاكي الصمت والسكون، وتنادي بأعلى صوتِها: “الحديث عن الهمة والعمل ذو شجون”. فلم يعدْ هناك فائدة من جلوسنا أمام عتبات التأمل والأمنيات نلتمس منها الرزق، فالرزق عند ربّ العباد، وليس من الشهامة أن ننحني لنستجدي حائط الزمان وهو يبكينا.
بل نحن في زمن تباعدت الأمنيات الزائفة، وانسحرت أمام تمدد الحقائق على خارطة الطريق التي تغير فيها كلَّ ما فيها، واعوجّ مجرى الجغرافيا أمام ثوابت التاريخ.
فنحن في زمنٍ تصاعد فيه دخان المصطلحات، وأصبح يطفو على بحار ألسنتنا، منها الجميل ومنها دون ذلك، ومنها مصطلحات: التحديات، الجائحة، الأزمة، وسائل التواصل، اللقاح، الدراسة عن بعد، الأكل من الغلّ، قرصنة المعلومات، اختراق الشخصية، الحُزم.
وفي المقابل غرقت في بحر الأُمنيات مصطلحات لا ينبغي لها أن تغيب شمسها عن وجداننا، ومنها: الزيارات، واجبات الأسرة، الذكريات الجميلة، الطلعات الشبابية، الرحلات والاستجمام، المهنة الشريفة، … إلخ. ومع الأخيرة لنا لقاء.
فالمهنة –أيًّا كانت- فهي شريفة، فقد جاء الإسلام يحضّ على العمل. ولم يأت دليلٌ واحدٌ يخصص شرفًا لمهنة على أخرى، إلا أنه جعل أهل العلم أعلاهم قدراً لشرف القرآن والسنة، والعلم الشرعيّ لا يحرم منه أهل المهن والصنائع، فلنعد إلى شرف المهنة إذن.
فالإسلام يدفعنا إلى الأمام، ويحضنا على التجارة وبركتها، والزراعة ونمائها، والصنعة ومنفعتها، وهذه أسس الحضارة الثلاث التي تنبني عليها الأمم.
وعلى حين غفلة من أمتنا –والعربية تحديداً- دخلت علينا مفاهيم ومصطلحات اعتنقتها أجيال وبنت عليها عروش أحلامها، وشيّدت قصوراً في الهواء، فنجد شباباً مفتولي العضلات، يجلسون على أريكته ينتقدون كلّ شيء: التاريخ والسياسة والأعمال والأقوال والثوابت الدينية والإنسانية، وإلى هنا فالأمر شبه مقبول، ولكن أن يعزف أحدهم عن العمل والمهنة، وهو ينتظر أن تحضر إليه المهنة المناسبة والمفصلة على مقياسه، وتأتي معها بالعروس والسيارة ويا حبّذا شقة في غرب العاصمة ولا بأس في أطرافها.. عجب وألف عجب.
أما الدين والوطن فهم برآء من الجدل ومن العزوف عن العمل، وعن انتظار غيمة الأمل دونما عمل. فالقرآن الكريم يقول: “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”، والنبي صلى الله عليه وسلّم يقول: “لأن يحتطب أحدكم”، وعمر بن الخطاب ينهر أحدَهم ويطلب منه الخروج من الاعتكاف دوما في المسجد فيقول: “السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة”. وابن مسعود يقول: “لا اُلفِيَنّ أحدكم لا دين ولا دنيا”. وأما علماء الأمة في كافة العلوم فهم: الحداد والنجار والخياط والزارع والقفال والبزاز والقطان والصواف والصائغ والخراز، هم وآباؤهم وأبناؤهم من بعدهم يعملون بتلك المهن ويتوارثونها.
وأما الركون إلى الدّعة والراحة والفراغ المقيت، وأن يعوّل أحدهم على السياسات والاقتصاد، بل قد ينتظر بعضُ الكسالى، أن يأتي صاحبُ الشركة والمصنع إلى باب بيته بهدية ويوقظه كي يأتي للعمل. فأيّ منطق يعيش به من يعيب هذه المهنة ويستثقل الأخرى ويستبعد الثالثة ويمتنع عن الرابعة لوجود شوكة في طريقه، ويعزف عن الرابعة لأنها لا تليق بمقامه الرفيع، ويتردد من الخامسة لأنه ينتظر أملاً في السابعة، وتأتيه الثامنة ويدير ظهره إليها، وتأتيه فرصة تاسعة فيتأخر عنها، ويركض وراء العاشرة فيجدها سراب، فيرجع إلى ميدان النوم الفسيح، ليأكل من ثمرة أبيه ومن مصروف إخوته.
أخي الشاب الغالي.. هل تعلم أنّ الحساسية المفرطة حين توجيه النصيحة إليك، أنها لا ينبغي أن تكون، لأنّني لا أرغب منك أن تتأخر عن ميدان العمل، فهو الذي يبني لك المستقبل، واترك الكسل واطرق باب الكريم، ولو أن تقف على باب التجمعات الصناعية والعمالية فتطرق باب هذا وباب هذا، لأنك في كلّ طرقة تقترب من رزقك الذي لا ينبغي لك أن تتوانى عنه، ولا أن تخجل منه، ولا أن تستقلّه فالبركة من الله وحده. وعليك العمل وعلى الله التيسير والبركة.
والآن.. هل حان موعد رحيل ثقافة مقيتة تجسدت بثقافة العيب من بعض المهن؟ هل حان الرجوع إلى الحيوية وأن يأخذ كل منا مكانته ومكانه المطلوب منه.
لعلي أطلت عليكم ولكن.. الأمر قد استطال، والقعود عن العمل أورثنا كلّ مصيبة حتى أصبحنا نعيش على الفتات وبلادنا الخير فيها ونحن نعمل فيها.