ثمة علاقة وثيقة لاتنفك بين أخلاقيات العمل الإعلامي ومعايير حقوق الإنسان التي تضمنتها المواثيق والمعاهدات الدولية، والدفاع عن الإنسانية والبحث عنها في الخطاب الإعلامي ليست دربا من الترف؛ بل غاية الأهداف أن نجد إعلامنا العربي ينحاز للإنسان ويحتضنه ويحتفي به كونه مكرم من رب العالمين، والأولى بخطابه أن يكون رحمة للعالمين متصالحا مع الجميع؛ فينشر السماحة ويزرع الأمل والإيجابية في نفس قارئه، لكننا وجدنا مجمل الخطاب الإعلامي يحمل الكراهية ويحاول شيطنة الآخر، وحتى العواطف الإنسانية محكومة فيه ومشروطة بمنطق السوق والمصلحة والمنفعة.
وكان الأحرى بإعلامنا العربي أن يتأنسن ليُعلي من قيمة الإنسان وحقوقه فوق أي قيم إخبارية أخرى مستمداً مبادئه من ثوابت الدين الإسلامي الحنيف؛ كونه أول من نادى “بالأنسنة” حينما كرم بني آدم، ورفع للإنسان قدره وأعلى من حقوقه، وجعل البشر سواسية، وانتصر للمظلوم والمستضعفين والأقليات والمهمشين دون اعتبار لقومياتهم أو أجناسهم أو مذاهبهم؛ محترما بذلك التعددية الدينية والسياسية والثقافية، وبالتالي فالسلوك الإعلامي يحتاج لقواعد قانونية تحكم التزامه بمسئوليته الإنسانية؛ فيكون مسئولاً ومساءلاً عنها في ذات الوقت.
كما أن التحديات الشرسة للبيئة الرقمية تحتم على الأنظمة العربية ضرورة مراجعة علاقتها بالإعلام واستراتيجياتها وفلسفتها تجاه مؤسساته، وعليها التخلص من التبعية الإعلامية للنماذج والمفاهيم الغربية التي لاتشبهنا ولاتناسب خصوصية ثقافتنا العربية والإسلامية، وتكف عن التقليد العقيم لبرامجهم الإعلامية التي انحرفت عن دورها الحقيقي إلى إعلام ممولين ودول وأحزاب؛ فإعلامهم يفتقد للإنسانيات ويتحكم فيه كل من يملك المال والنفوذ، ونقطة البدء في ذلك تتمثل في استثمار التأثير الكبير والفاعل للخطاب الإعلامي وتوجيهه لتشكيل العقل الجمعي للرأي العام العربي الذي يستتبعه بلورة اتجاهاتهم وسلوكهم، ولابد للخطاب الإعلامي العربي أن يحمل قيمة أخلاقية ويضفي صفة الإنسانية على الأحداث التي يتضمنها، ولاينبغي لصانعيه الاستسلام لأية ضغوط لتمييع النماذج السلوكية القائم عليها وهدم معاييره الإنسانية والقيمية والأخلاقية إرضاءاً للمزاج العام، أو تحقيقاً لمصالح اقتصادية وتسويقية قصيرة الأجل.
ومن هنا تعالت الأصوات مؤخرا تطالب بأنسنة الإعلام العربي وتغيير صورته النمطية، لنصل به إلى إعلام إنساني هادف يولي اهتماماً بالإنسان أكثر من السياسات والقضايا العامة مستنداً على أبعاد ثقافية وفكرية وتربوية، ومحاولة استبدال المحتوى الترفيهي الهش المنتهك للمعايير الأخلاقية والإنسانية بخطاب إعلامي مؤنسن يحمل رسائلاً إيجابيةً تبث روح الفضيلة والأمل والعمل في الأفراد، ويعزز أواصر المحبة والتسامح بينهم، ومتغافلا اختلاف أجناسهم والفروقات اللونية والإثنية والطبقية بينهم كونهم جميعاً سواسية يجمعهم وطن واحد ومصير مشترك، وأنسنة الخطاب الإعلامي العربي لاتقتصر فقط على أنسنة الصياغة والتناول؛ لكنها تتطلب بالضرورة إعلاماً هادفاً شاملاً؛ يمضي قدما نحو ماينفع هذا الإنسان العربي ويحفظ له كرامته بين دول العالم المتقدم، وهنا تظهر أهمية إيجاد مدخلاً إيجابياً لتفعيل دور الإعلام التنموي المؤنسن ليوجه المجتمع العربي بأجهزته ومواطنيه نحو دفع عجلة النمو وتحقيق أهداف التنمية المستدامة؛ تلك الأجندة الأممية التي ترتبط ارتباطاً وثيقا بحقوق الإنسان وتحقيق حياة أفضل له، فالتنمية محورها وهدفها الأول والأخير هو الإنسان.
وعلى الجانب الآخر هناك محاذير من الانسياق وراء الأنسنة المطلقة للخطاب الإعلامي وأضرار الإفراط فيها، فهناك خطاً فاصلاً بين الأنسنة بمراعاة البعد الإنساني، وبين الأنسنة المطلقة التي تقلب الحقيقة فيتم خلالها أنسنة الجاني وشيطنة الضحية، وعلينا ألا ننساق وراء تسويق مصطلحات الأنسنة في غير موضعها: “كالعيش معا”، “تقبل الآخر”، “التعايش السلمي” فيتم الترويج دون قصد لتقبل المحتل والمغتصب للأرض والاستيطاني بحجة أننا جميعا بشر، وتحت رداء الأنسنة يتم إظهار العدو الصهيوني كإنسان، والعدو الإيراني بشر مثلنا، والإرهابي ظروفه قاسيه، والانحراف الأخلاقي له مسببات، فيهيىء المجتمعات للتخلي عن المبادىء، وتقبل القادم الأسوأ، وعلينا ألا نستجيب للدعوات العلمانية المتكررة بوقف تناول القضايا التي تمس العقيدة بحجة توحيد الصف، والتزام الحياد في رواية القضايا التي انتُهكت فيها الحقوق؛ بل علينا التحيز لصاحب الحق، كي لا يكسب الآخر تعاطف الرأي العام المحلي أو المجتمع الدولي ضد الضحية.
أيضا وقوع بعض الإعلاميون في فخ الأنسنة الكاملة للقصة الخبرية يُحدِث خللا في وظائف الإعلام فيختفي طرفي الصراع كون كلاهما مؤنسن، فيتماهى الحد الفاصل بين الحق والباطل، وتحدث بلبلة للجمهور المتلقي في الحكم المنصف بين كليهما، فتُقلب الحقيقة دون قصد؛ فيظهر الجاني كأنه الضحية والعكس، وقد يتم تضليل الجمهور بأنسنة الجاني سواء كان سارقا أو خاطفا أو قاتلا أو إرهابيا أو محتلا للأرض ووضعه في دائرة الضوء، وإغفال المجني عليه، فنصنع من المجرم بطلا للقصة وله مبرراته، وعلينا الحذر من الوقوع في مستنقع العبث بالمفاهيم تحت رداء الأنسنة؛ فيتم تصوير الإرهابي أنه شهيد، والشهيد الفلسطيني أنه قتيل، وحق الصهيوني أن يقتل الفلسطيني صاحب الأرض دفاعا عن نفسه، وألا ننزلق في فخ الصور المؤنسنة المروِجة للتطبيع بطريقة ناعمة؛ تلك التي تُظهر العدو الصهيوني أنه الطرف المتحضر والبرىء بينما أطفال غزة جُناة يرمونه بالحجارة أو يتدربون للدفاع عن أرضهم.
وعندما نتحدث عن الأنسنة لابد من معرفة الحد الفاصل بين تقديم خطاب إعلامي سواء خبر أو تقرير أو مادة صحفية يحتوي قدراً من الإنسانية وليس بها كره للآخر؛ وبين أن نتشتت فنقلب الصورة كاملة بجحة أنسنة الخبر، فيظهر الحق كأنه باطل، ويظهر الباطل كأنه صاحب الحق، وعلينا ألا ننخدع بالدعوات المغرضة بالترفع دوماً عن كره الآخر للظهور بمظهر الحقوقيين، وتبني شعارات أنسنة الآخر، وألا نتعامل معه كعدو كونه بشر وله حقوق إنسانية؛ فهي تصل بنا إلى مربع نؤنسن فيه من سولت له نفسه سلب حقوق الآخرين وانتهاكها، وهذا كله يُحيد الإعلام عن وجهته الأهم في تبيان الحق، وعلى القائم بالاتصال أن يكون إنسانا قبل كل شيء، فيجمع بين الشكل الجاذب لرسالته الإعلامية ومضمونها الواقعي الهادف؛ آخذاً في اعتباره ألا يمس إنسانية جمهوره الذي لم يعد متلقيا سلبيا؛ بل صار يمارس حقه في النقد على كافة المنصات الإعلامية، وبالتالي لابد من فتح ملف أنسنة الخطاب الإعلامي العربي لدعم التعايش السلمي المشترك، وتعزيز الولاء للوطن العربي وصولا لبناء خطاب إعلامي متحرر من استبداد المنطق النفعي إلى آخر إنساني يسهم في تحقيق الإندماج الفكري العربي.