ماذا فعلت روسيا في العالم بغزوها لأوكرانيا ؟

on 06 November 2022, 08:00 AM
د. محمد عبد العزيز _مدير عام مركز لندن للبحوث
د. محمد عبد العزيز _مدير عام مركز لندن للبحوث

رؤية تحليلية

ونحن على بعد ثمانية أمتار فقط من نهاية عام 2022 لا تزال الظلال القاتمة للغزو الروسي لأوكرانيا تهيمن على المشهد العالمي وتحديداً منذ إعلان الرئيس الروسي بوتين، بدء العملية العسكرية في 24 فبراير 2022 فتسبب في واحدة من أكبر الخسائر الفادحة في الأرواح البشرية والاقتصاد العالمي وأزمات النزوح والتشرد البشري ، ولجأت أميركا والاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات متصاعدة على روسيا، فازداد غي بوتين وتسبب في أزمات إنسانية واسعة النطاق حيث تشير التقديرات إلى نزوح أكثر من 14 مليون شخص منذ بدء الغزو، وكذلك المخاطر على الاقتصاد العالمي الذي لا يزال يئن تحت وطأة تداعيات كوفيد 19، فضلاً عن انخفاض تدفقات التحويلات والآثار غير المباشرة لارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود والأسمدة فأدى إلى زيادة مخاطر انعدام الأمن الغذائي وارتفاع معدلات الفقر في العديد من البلدان منخفضة الدخل.

وعن تداعيات الغزو الروسي التي تطال العالم شرقه وغربه ، فكما تأثر الشرق الأوسط والعالم العربي عبر قلة القمح المستورد وارتفاع الأسعار ، تأثرت أيضاً القارة العجوز ” أوربا ” عقب لجوء روسيا لقطع الغاز عنها وهي التي تعتمد على 32% من إجمالي واردات الغاز الروسي المصدر عالميا، فعلى سبيل المثال تستورد المانيا (أكبر اقتصاد في أوروبا ) 49 مليار متر مكعب؛ بما يمثل 55 % من الغاز الروسي لقارة أوربا ومن تداعيات الحرب عليها ارتفاع أسعار الطاقة بنسبة 70% لتصبح الأعلى في أوروبا. رد الاتحاد الأوربي على قطع روسيا للغاز بخفض استهلاك دوله من الغاز بنسبة 15%. وتحججت روسيا بأن العقوبات الغربية عليها هي السبب في انقطاعات الغاز، رغم أن موقفها واضحاً باستخدامها الغاز كسلاح لعقاب أوروبا المساندة لأوكرانيا ، وبات الضحية هو الإنسان في كل مكان فأصبح التهديد يلاحقه طوال الوقت جراء غياب الطاقة وارتفاع الأسعار.

 

 

جذور القصة

وتعود أصول القضية الأوكرانية المعاصرة كما كتب د عصام عبد الشافي في أحدث أبحاثه إلى العام 1991 مع تفكُّك الاتحاد السوفيتي، وحصول أوكرانيا على استقلالها في نفس العام. وفي العام 1994، جرى توقيع “مذكرة بودابست” التي تعهَّدت بموجبها روسيا الاتحادية باحترام حدود أوكرانيا في مقابل تخلِّي كييف عن ترسانتها النووية الموروثة عن الاتحاد السوفيتي لصالح روسيا. لكن سرعان ما تمدد حلف الناتو شرقًا. فانضمَّت جمهوريات التشيك والمجر وبولندا للحلف، عام 1999، وبين عامي 2004 و2009، انضمت 9 دول من شرق أوروبا، بعضها من الجمهوريات السوفيتية السابقة (بلغاريا، إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا، رومانيا، سلوفاكيا، سلوفينيا، ألبانيا، كرواتيا)، ثم لحقت بها بعد ذلك كل من الجبل الأسود ومقدونيا الشمالية. وأصبح إجمالي عدد الدول التي انضمت للحلف بين 1999 و2020 نحو 14 دولة، تشكِّل نحو نصف الدول الأعضاء في الحلف الذي تأسس عام 1949.

ولم يعد متبقيًا من الدول العازلة بين روسيا والناتو سوى بيلاروسيا وأوكرانيا، وترى روسيا أن انضمام هاتين الدولتين إلى الناتو يعني حصارها داخل حدودها، وتصاعدت مخاوفها مع مخرجات قمة الناتو التي عُقدت في العاصمة الرومانية، بوخارست، عام 2008، عندما رحَّب الحلف بتطلع أوكرانيا وجورجيا لنيْل عضويته، وهو ما كان، من وجهة النظر الروسية، بمنزلة إعلان لحرب ممتدة بين روسيا والغرب. فبدأت روسيا سلسلة من المواجهات العسكرية لمنع هاتين الجمهوريتين من الانضمام للحلف .

وفي 20 فبراير2022، اعترف بوتين، باستقلال جمهوريتين انفصلتا عن أوكرانيا هما “لوغانسك”، و”دونيتسك”. وفي الرابع والعشرين من نفس الشهر، قامت القوات المسلحة الروسية بغزو عسكري شامل للأراضي الأوكرانية بدعوى أن ذلك جاء بناء على دعوة وجهتها هاتان الجمهوريتان الانفصاليتان للنظام الروسي للدفاع عنهما، في مواجهة ما أسماه النظام الروسي: “حرب الإبادة التي يشنُّها النازيون الجدد في أوكرانيا” ضد الأقليات من أصل روسي في الجمهوريتين.

خسائر أوربا

واجهت الدول الأوروبية العديد من الأضرار والتحديات بسبب تداعيات الحرب، منها تباطؤ النمو الاقتصادي وتأثر حجم التبادل التجاري حيث يُعد الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لروسيا، وتشكل موسكو خامس أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي، ونالت العقوبات الغربية المفروضة على روسيا بشدة من العلاقات التجارية بين موسكو والاتحاد الأوروبي ، فضلاً عن تهديد أمن الطاقة الأوروبي حيث تُعد روسيا أكبر مورِّد للطاقة للاتحاد الأوروبي، فحوالي 40% من واردات الاتحاد من الغاز الطبيعي، ونحو 33% من وارداتها من النفط، مصدرهما روسيا. أيضاً من أهم التداعيات السلبية تهديد الأمن الغذائي حيث تُعد روسيا أكبر مصدِّر للقمح في العالم، وتوفر كل من روسيا وأوكرانيا معًا أكثر من ثلث صادرات الحبوب العالمية. وفي ضوء تطورات الأزمة، ارتفعت أسعار المواد الأساسية بما في ذلك السلع الزراعية، خاصة القمح والذرة بنسب تفاوتت بين 40% إلى 60%. وهناك أزمة اللاجئين الأوكرانيين: حيث غادر نحو 4 ملايين شخص أوكرانيا منذ بدء الحرب ، وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة. – تضرر قطاع الطيران والسياحة مع حظر الرحلات الجوية بين روسيا والدول الأوروبية، كما تُعد روسيا ثالث أكبر مصدر للسياحة في أوروبا بجانب تضرر العديد من قطاعات التصنيع، والبنوك والخدمات المالية .

خسائر الشرق الأوسط

وما يهمنا تداعيات الحرب على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وهي منطقة تعتمد بشكل مفرط على استيراد الغذاء والطاقة، الأمر الذي يتركها هشة على نحو خاص أمام الصدمات الاقتصادية نتيجة الأزمة الأوكرانية؛ إذ إن بعض الدول تشتري كميات كبيرة من القمح من أوكرانيا وروسيا. وفي الوقت الذي واجهت فيه دول عديدة مثل فلسطين، والأردن، واليمن وتونس ومصر إضافة إلى لبنان صعوبات بالغة دمرت اقتصادها لافتقارها أية احتياطات فشهدت معاناة سكانها من ارتفاع الأسعار والتضخم وهبوط في عملاتها – لاسيما لبنان وهي تشهد حالة فراغ رئاسي الان – ويواجه المستوردين في تلك الدول صعوبة متزايدة في شراء القمح من روسيا بسبب صعوبات تحويل الأموال إلى الشركات الروسية والتأمين على السفن . وعلى الوجه الآخر هناك دول عربية محمية من تلك التداعيات السلبية لوجود اكتفاء ذاتي أو تصديرها النفط والغاز، مثل إسرائيل ، وإيران، والعراق، وليبيا وبعض دول الخليج العربية ممن تمتلك احتياطات كبيرة .

وقد أحدثت الكلفة المتزايدة للنفط والغاز أثراً على ارتفاع كلفة النقل وبالتالي أسعار السلع بشكل عام، الأمر الذي زعزع بعض الاقتصادات الهشة أصلاً. إضافة إلى ذلك، فإن ارتفاع أسعار الوقود سيجبر الدول الفقيرة بالنفط على تخفيض سعر صرف عملاتها الوطنية، ما سيحدث انخفاضاً في الدخول وتردياً في الأحوال المعيشية وهو ما حدث في لبنان ومصر . وهناك بعض التكهنات أن تشهد المنطقة اندلاعاً آخر للاضطرابات الاجتماعية وحتى الصراع نتيجة للصعوبات الاقتصادية الموجودة في بعض الدول وعدم قدرة الحكومات على معالجتها بشكل مناسب.

وعلى الصعيد السياسي، هناك الكثير من المتغيرات. ففي سائر أنحاء المنطقة تبتعد الأطراف الفاعلة السياسية عموماً عن الاصطفاف العلني مع روسيا أو أوكرانيا، فقط الحكومتان الإيرانية والسورية، إضافة إلى حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن، عبروا عن تضامنهم مع روسيا. أما بقية دول الشرق الأوسط فينخرطون في محاولة التوازن على حبل مشدود بالتودد إلى روسيا والدول الغربية معاً ويحاولون لعب دور الوساطة.

هذا بجانب التناقض في خريطة العلاقات الروسية-العربية، فالدول العربية، من حيث هذه العلاقات، تتوزع إلى مجموعتين: الأولى هي تلك الدول الأكثر استيرادًا للسلع المدنية الروسية (وهي بالترتيب: مصر، والمغرب، والإمارات، والسعودية، وتونس، والأردن، وقطر)، والثانية هي الأكثر استيرادًا للسلع العسكرية الروسية (وتأتي سوريا على رأس قائمة الدول المستوردة للسلاح الروسي بنسبة 95% من أسلحتها، تليها الجزائر بنسبة 81%، ثم العراق بمعدل 44%، تليها مصر 41%، ثم الإمارات العربية المتحدة بنسبة 3%).
وأمام الأزمة الروسية الأوكرانية توارت خجلاً قضايا شرق أوسطية مهمة مثل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، أو الانهيار الاقتصادي اللبناني، أو التهديد المتزايد بحدوث مجاعة في سورية أو بالكارثة الإنسانية في اليمن. ومن المرجح أن يتضاءل الاهتمام بهذه الأزمات من قبل الجهات الفاعلة الدولية المنشغلة في أحداث عاجلة وملحة.

وفي النهاية

كشف الغزو الروسي لأوكرانيا عن العديد من نقاط الضعف في النظام الدولي القائم، وخاصة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ودوره في الإشراف على النظام الدولي القائم؛ حيث أظهرت الأزمة الأوكرانية أن حق النقض للأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن يشكل حجر عثرة أمام السلام، ويعزى ذلك إلى أن الدول الخمس تنقسم إلى كتل جيوسياسية متنافسة، فيمارس عضو في كتلة واحدة حق النقض (الفيتو) على العديد من القرارات الحاسمة.

وتبقى الرؤية المستقبلية لا تراوح سيناريو نظام عالمي تسيطر فيه روسيا بشكل فعال على جزء كبير من أوروبا الشرقية، وتسيطر الصين على جزء كبير من شرق آسيا وغرب المحيط الهادئ وسيتعين على الأميركيين وحلفائهم في أوروبا وآسيا أن يقرروا مرة أخرى، ما إذا كان هذا العالم مقبولًا، لأن هذا يعني نهاية النظام العالمي الحالي و”بداية حقبة من الفوضى والصراع العالميين؛ حيث تتكيف كل منطقة في العالم بشكل غير مستقر مع التكوين الجديد للقوة.


وقد أكدت تداعيات تلك الحرب على أن التحولات والتطورات التي تحدث في بنية النظام الدولي ” الذي تمثله أميركا حتى الآن ” تلقي بظلالها السلبية على كل الأنظمة الإقليمية الفرعية التي يقوم عليها النظام الدولي المتحكم ، ومن بينها الشرق الأوسط . وهو ما يعني إمكانية تعرض بعض الأطراف الإقليمية لضغوط وعقوبات سياسية واقتصادية إذا فكرت في تجاوز الأدوار الوظيفية المرسومة لها سلفًا من جانب أميركا.

وأرى أننا لن نستطيع بعد ثمانية أسابيع أن نردد : انتهى عام 2022 بقضّه وقضيضه، وجاء 2023 ومعه آمال وتطلعات في ألا يكون مثل سابقه طالما ظل العالم تحت سطوة النظام العالمي المتحكم الذي لن يكون إلا قاضاً لمضاجع ملايين البشر في أرجاء العالم الأربعة وقاراته الست ، لن يعود العالم في عام 2023 إلى الهدوء الكامن الذي كان عليه حتى عام 2018 ما يهيئ الفرصة للعودة إلى حياة طبيعية حتى وإن اشتملت على قضٍّ وقضيض جديدين ، وإن عاد سيكون عبر ارتداء النظام العالمي المتحكم لثوب أُعيد كيه ، وألوان أعيد صبغها مع بقاء المضمون كما هو ، نظام عالمي متحكم وأموال تهيمن على مقدرات الشعوب .