تحمل ليلة القدر الشريفة بين أنفاسها فضاءات، وعوالم من الأسرار الإيمانية، والحضارية، والتربوية، و اختزال ليلة القدر بالعبادة الفردية والتقوقع بدائرة الأنا ومشتقاتها ،ومتعة العبادة غير الفاعله تُعد رؤية مبتورة قاصرة عن تحقيق الهدف المنشود. والإشارات الربانية لخطاب وحي السماء إلى الأرض لليلة القدر تُعد مساراً مفتوحاً لاستنطاق واستبطان رسائل صريحة وضمنية يمكن أن نختزل أبرزها بالإيماءات التالية:
هناك إشارة ضمنية ل(إقرأ) أول لؤلؤة من خطاب السماء إلى الأرض في ليلة القدر؛ إن من أبرز الثمار الحقيقية للعبادة (صناعة الوعي)، ورواد العمران الكوني نواة انطلاقهم القراءة الواعية للتاريخ والحاضر والآتي. وإن العبادة مع الجهل امتداد لمسيرة الجهل والظلام، وإن اشعال فتيل الإبداع الحضاري الإسلامي إنما يقودها التناغم بين النبض العقلي والنبض الوجداني فلا انشطار في بناء شخصية المسلم، إذ لابد أن يلتقي العقل والقلب المؤمن معا فالعقل ينير ظلام القلب، والقلب يرفد العقل بطاقاته الإيمانية المتألقة {واتقوا الله وَيُعَلّمُكُمُ الله}.
إن علماء الوعي لا بد أن تزكي نفوسهم روافد الطاقة الإيمانية في محطات ومواسم التجديد، وعلى رأسها ليلة القدر، بيد أن غياب علماء الرقائق عن فقه الواقع واعتكافهم في أبراج متعة العبادة الفردية، والتقوقع حولها دون اسهامهم في اصلاح المنظومة الاجتماعية سبباً للانتكاس والانكسار الحضاري، ولا يقبل في ظل تحديات الحياة أن يُغيَّبوا عن الوعي السياسي في زمن اتسعت فيه رقعة فضاء الإعلام السياسي بحيث بات يضطلع في تشكيل وصياغة أدق الخصوصيات الوجدانية والعقلية، وإن كان هناك غياب مرحلي للعالم ولحكمة ولمصلحة الدعوة لينأى بنفسه عن لوثة السياسة ،وضبابيتها، و وصولية عشاقها، فلابد أن يوازيه وعياً خاصاً يليق بإشراقة العالِم ومكانته، وإلا فقد شطراً من ألفه ونورانيته؛ لتلتقط الأجيال الصاعدة والحاضرة القدوات البائسة لتملأ الفراغ!!!.
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} تعلن الحرية بعبودية الخالق ،والانعتاق من الجهل والعبودية لأوثان الحج والبشر، مروراً بالمعشوقات الكبيرة والصغيرة ،حيث تعد الحرية السقف الأعلى للإبداع وإشعال فتيل الشهود الحضاري؛ لذا قدم لنا الرعيل الأول في صدر الإسلام التجربة العالمية الخالدة التي اختزلت الزمان والمكان لرائد الإنسانية ونموذجها الأمثل صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم جميعا، ويؤكد مالك بن نبي رحمه الله تعالى في كتابه القيم (شروط النهضة) أن أي قيام حضاري لا بد أن يقوم على سمو روحي ونهضةأخلاقية.
يؤكد لنا خطاب السماء ارتباط القراءة باسم ربنا الأكرم في قوله تعالى {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} بكرم أخلاق الانسان ،وحسن توظيف جمال الذوق الاخلاقي الإيماني المتفرد، والتي تُعد الترجمة الحقيقية لثمار العبادة، وصدق العبودية للخالق الأكرم، ويتكامل ذلك ذلك مع قوله تعالى {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} فالطغيان لمن ينسب الفضل لذاته الضعيفة إذا أنعم عليه الخالق جل وعلا، ولربما لمن تقوقع في الشعائر وتغافل عن جوهرها ولبها وبات ما يمكن تسميته “العابد القاسي” “العابد الاناني” وفاته بركات روح الجماعة أخذاً وعطاءً تبادلاً وتفاعلاً .
وإذا انتقلنا إلى قوله تعالى في سورة القدر {سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ} نلحظ جلياً أن الخالق سبحانه وتعالى يربي ويجذّر في نفوسنا السلام الداخلي بعذوبة البناء الإيماني المحكم للنقلة النوعية للسلام العالمي والإنساني والكوني، ليس في دائرتنا الإنسانية فحسب بل في كل المعطيات الكونية، وبعد هذا أليس من الاجحاف أن يلصق بدين السلام والرحمة والإنسانية الارهاب ليصبح (ماركة إسلامية) !!!!.
إن اختيار ليلة القدر في شهر الرحمة و عدم الاستسلام لشهوات النفس من طعام وشراب … يمنحنا ايماءة ضمنية للمشاركة الوجدانية، وتوسيع فضاء المشاعر العذبة، والتسامي فوق قبضة الماء والطين، واقصاء لميزان المطففين، فإذا كانت اللقمة أدنى القيم والممتلكات المادية يجب أن توزع بعدالة وإنصاف، فأنى بشتى أطياف الطاقات والقدرات والكفاءات الإنسانية في مواقع التمكين والريادة الحضارية!! من باب أولى أن توزع بعدالة.
اللهم بلغ أمتنا ليلة القدربأحب ما يرضيك عنا بقلوب خاشعة, وعقول واعية، وشهود حضاري عالمي نراه رأي العين تقر به أعيننا قبل الممات.