سؤال سوف أحاول أن أجد له إجابه مختلفه لم تخطر لك على بال . ولكن دعني أحذرك من البدايه أن المقال طويل . أمامك الآن فرصه ذهبيه في أن تتجاهله . غير أني أفضل أن تعيرني من وقتك قدر القراءه وأعدك أن تتغير كل مفاهيمك بمجرد الإنتهاء .. دعنا نتفق في البدايه على مجموعه من البديهيات ألا وهي أن الفقراء والضعفاء ومن تعودوا أن يأخذوا لن يستطيعوا أن يفرضوا قيمهم على الأغنياء والأقوياء ومن يعطي . وأن لكل زمن قيمه الخاصه به. فالقناصه مثلا لو كانت متاحه منذ القدم ما سمعنا عن عنترة ابن شداد . فرصاصة واحده كانت ستكون كافيه للقضاء على ملحمته . ونترك البديهيات وندخل مباشرة للموضوع . لماذا تغيرنا ؟ لماذا تراجعت الأخلاق وما هو سر تلك الهزيمه التي حطمت هرم القيم العليا حتى أصبح في أدنى مستوياته ؟ وأصبحنا نتباكى على رفات عادات وتقاليد الزمن الجميل و التى تم دفنها دون غسل أو صلاة أو حتى مقبره .. الإجابه أمام أعيننا ولكننا لا نراها . هي ليست بسبب بعدنا عن تعاليم الدين . ولا بسبب غياب دور المؤؤسسات المسؤوله عن التربية ولا بسبب العامل الإقتصادي إطلاقاً . فقط هي نتائج لسبب واضح وحيد .. إذن ما هو ذلك السبب البغيض ؟الأمة العربية يا ساده ظلت ملايين السنين تتعامل مع الحياه والطبيعه بنفس الأدوات التي تعامل بها واستخدمها آدم عليه السلام . وبتطور طفيف لا يذكر . تشرب من النهر مباشرة في أواني من فخار وتطهوا طعامها على مواقد الخشب والأحجار ( الكانون ) وتنام على الحصير . وتسكن بين الأحجار والخشب . وتصنع ملابسها بيدها من القطن و الصوف والوبر وتستيقظ مع الشمس . وتنام مع رحيلها . وكان الإنسان وقتها سيد الكون . سيده بالفعل . يعلم وظيفته .فيسقي كل شبر من زرعته بعرقه . ويجني كل ثمرة وحبة بيده. ولأنه سيد الكون فقد استطاع أن يفرض قيمه العليا بفطرة نقيه . تعرف معنى الشهامة والنخوة والكرم والإيثار والرحمه . حتى الأطفال وقتها . كانت تمارس الحياه بنفس القيم . وحتى أثناء ألعابهم الجماعيه . كان غياب طفل واحد كفيل بهدم كافة خططهم في اللهو فلقد كان للإنسان وقتها قيمة .قيمة تظهر في غيابه كما تظهر في حضوره . لم يكن الإنسان وحده . فلقد كانت كل الكائنات تتمتع بقيمتها. فلقد كان الجمل وقتها سفينة الصحراء . وأبو القردان صديق الفلاح .والحمار العمود الفقري لكافة البيوت . والكلب يجلس في وفاء ، أنا لا أتحدث عن أسطوره . أتحدث عن صور وظواهر مارستها وعاينتها أنا وكل جيلي . وكما سردت . نفس أدوات آدم عليه الصلاة والسلام بتطور طفيف ولملايين السنين . ثم وفي خمسين عام وأقل تهجم علينا الحضاره والتكنولوجيا لتحتل الآله مكان الإنسان في كل شئ . هجوم شرس حول الإنسان العربي سيد الكون من صانع للحضاره وقادر بجهده وعرقه أن يتعامل مع الطبيعه . إلى مجرد عبد للتكنولوجيا وأسير للآله والماكينه. لم يكن يعلم أن الآله ستفرض عليه قيمها . لم يكن يعلم أنها ستعلمه كيف يتخلص من إنسانيته بوحشية مثلها . واختفت كل الحرف والمهن التي كانت تفتح بيوتاً . كيف لا ؟ والآله تستطيع أن تفعل في ثواني معدوده ما لا يستطيع أن يصنعه عشرات العمال والمهره . لم تبقى حرفة واحده إلا وضربتها الآله وأصحابها بالقاضيه . فانتشرت البطاله . ولم يبقى جهد إنساني شريف إلا وعطلته الماكينه فانتشر التبلد والكسل . حتى الأطفال دخلت على عالمهم ألعاب الكترونيه علمتهم الإستغناء عن الآخرين . كل الآخرين وأصبح سيد الكون أرخص ما في الكون . وكيف لرخيص أن يهتم بالقيم . وكيف لعاطل أن يبحث عن قيم . وكيف لضعيف أن يقاوم الابتذال . وأصبح من كان يطهو طعامه على الكانون ملايين السنين يستخدم الميكرويف . ومن يشرب من الفخار يستبدله بالمبردات . ويتجرأ على الطبيعه ويغير المناخ بالتكييفات .وترك الماكينة تسقي زرعه وتحصد حبوبه . وجلس يتابعها من بعيد برفاهية مريضه دون أن يعلم أنها تقتل أغلى ما يملكه . كل ذلك في فترة قصيرة جداً بالقياس إلى الزمن . خمسون عاما أو اقل تعرضنا لتقدم كان يجب أن يغزونا في خمسمائة عام حتى نستطيع مقاومته . هل معنى ذلك أنني ضد التقدم .؟ إطلاقاً .. أنا فقط حزين لاأن التقدم جاء من خارجنا . مازالت البلاد المنتجه تحافظ على قيمها .ذلك لأن بها جهد وعرق إنساني يصنع الآله والماكينه . أما نحن فمجرد زبائن للتقدم . زبائن نشتري السلاح لنقتل بعضنا البعض . لو كنا من ينتجه ما بقي لدينا وقت لنتصارع . استسلمنا للرفاهيه فأنتجنا بطالة . بطالة تعودت على الرفاهيه . فليس أمامها سوى طريقان إما أن نتسول أو نمارس الفساد و التطرف والقتل ..وكيف لمتسول أن يتسم بالكرامة وإن صام وصلى . وكيف لفاسد أو متطرف أو قاتل أن يمتثل للرحمة أو للشهامه وإن أدى الزكاة وحج البيت وشهد لله بالوحدانيه ، حتى الكائنات الآخرى لم تسلم من التطور . سفينة الصحراء تحول إلى كفته عند الحاتي . وأبو القردان تحول إلى جبال القمامه لانها أرحم من المبيدات الزراعيه .. وذهب الحمار إلى الصين في شاحنات . وتحول االكلب إلى ذئب يعقر من يقابله ، الماكينة ياساده هزمت الإنسان والبحث عن قيم المهزوم هما من الهموم المنسيه . ومحاولاتك الآن لتربية اولادك ، تستلزم منك أيضا أن تربي أولاد الأمه كلها .. أشكرك على تكملة المقال … وإن كنت أعتقد أنه لا طاقة لأحد أن يكمله .
أ. صلاح عتريس، الأديب المصري وخبير التنمية البشرية