الكائنُ البشرى ضعيف. أقلُ إصابةٍ تؤلمُه. وأصغرُ شوكة تُعطبُه. وأضعفُ فيروس يمرضه لكن ضعفه ليس فى جسمه فقط. ضعفُ إرادته أخطر. والأخطرُ في هذا الضعف هو العجزُ عن كبح الشهوات، وما أكثرُها. لكن أكثر ما يؤدى إلى خرابٍ ودمار شهوتين يشهدُ التاريخُ أنهما لعنتان لا يُعلى عليهما.
شهوةُ السلطة، وشهوةُ المال، هما أكثر ما أفسد الحياة في هذا الكوكب منذ القدم. أُفسدت شهوةُ السلطة من اشتهاها، وأضعفت بلادًا كانت فى أوج قوتها. وعلى سبيل المثال فقط، يُجمعُ مؤرخو الإمبراطورية الرومانية على أن شهوة السلطة كانت العامل الرئيسي وراء سقوطها. وعندما نتأملُ تاريخ إمبراطورياتٍ وممالك ودولٍ أخرى، نجدُ أن هذه الشهوة أسهمت ومازالت، فى إضعافها أو انهيارها.
لم يضع النظامُ الديمقراطي نهايةً لشهوة السلطة، رغم ما يتضمنُه من آلياتٍ للرقابة والمحاسبة والمساءلة، وقواعد للتداول على الحكم. أضعفت الإجراءاتُ الديمقراطية شهوة السلطة لدى بعض السياسيين، وهذَّبتها عند آخرين، بعد أن حولَّتها من غنيمةٍ إلى خدمة عامة. ولكن هذه الشهوة ظلت أقوى من أن يُقضى عليها. وما رفضُ رؤساء وغيرهم الاعترافُ بنتائج انتخاباتٍ خسروها إلا أحد تجليات استمرار هذه الشهوة. وجايير بولسونارو فى البرازيل ليس آخرهم.
ومن مفارقات شهوة السلطة أنها قد تجعلُ من يشتهيها أشرس من وحش جائع، أو تُظهرُه فى صورة يبدو فيها كما لو أنه طفل يلح طلبًا للعبة، ويفرحُ حين يلهو بها. تأمل مثلا سلوك رئيس مجلس النواب الأمريكى الجديد كيفن مكارثى عندما فاز بالمنصب بعد أن طال إلحاحُه على من رفضوا الاقتراع لمصلحته. كان أول ما فعله أن هرع إلى المطرقة فأمسكها، وطرَّق بها وهو واقفُ كما لو أنه طفلُ نال لعبةً بعد طول لُهاث.
ومكارثى هذا هو نفسه الذى بدا منتشيًا فى بداية عمله رئيسًا للمجلس، وهو يتوعدُ خصومه فيه. وهو من سنتابعُ كيف سيسعى إلى التحايل على تنازلٍ كبير يُقّلصُ سلطته قدمه لمن ساوموه لأجل انتخابه. وهذا مثالُ واحدُ لما تفعله شهوة السلطة فى نظام ديمقراطي تُطفئ قواعدُه الكثير من بريقها الذى يلمع، ويُلَّمع، فى النظم التسلطية والشمولية.