على العدل قامت السماوات والأرض لولاه لاختل ميزان الكون ، ولعظم شأنه، جعل الله تعالى من أسمائه المقسط ، و قد أوجب سبحانه العدل على نفسه وعلى خلقه و حرم ضده وهو الظلم على نفسه و على غيره ، ففي الحديث الذي رواه مسلم أن النبي – صلى الله عليه و سلم – قال : ” قال الله تعالى يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ” .
ومن صنوف العدل الإنصاف و هو من العدل في الأقوال و ذلك الذي أمر الله به في قوله تعالى “و إذا قلتم فاعدلوا” فالعدل و الإنصاف واجب على المسلم ، وأولى الناس بذلك زوجتك وأولادك و أهلك و إن كان النبي صلى الله عليه و سلم قال كما في الحديث الذي رواه الترمذي “خيركم خيركم لأهله و أنا خيركم لأهلي” فمفهوم المخالفة يرشدنا إلى أن شر الناس شرهم لأهله.
إن للعدل والإنصاف داخل الأسرة صور وأشكال عديدة فعدل و إنصاف بين الزوج و زوجته ، و عدل و إنصاف بين الزوجات ، و عدل و إنصاف بين الأولاد ، أما العدل والإنصاف بين الزوج وزوجته فعدل الرجل مع زوجته بأن يعرف حقوقها وأن يوفيها إياها و أن يشكر خيرها و يكافئها عليه، و من الإنصاف معها أيضاً أن يتغاضى عن بعض عيوبها إكراماً أو عرفاناً لجميل مميزاتها ، قال النبي صلى الله عليه و سلم كما في الحديث الذي رواه مسلم ” لا يفرك مؤمن مؤمنة (أي لا يبغض) إن كره منها خلقاً رضي منها آخر” وذلك موافق لقوله تعالى “و عاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً و يجعل الله فيه خيراً كثيراً ” أما أن يسقط الرجل زوجته ويبغضها مع زلة زلتها مع كثير من فضائلها فذلك ليس من العدل و الإنصاف في شيء.
و الزوجة كذلك مطالبة بالعدل والإنصاف مع زوجها و إلا استحقت الوعيد الشديد و العذاب على جحودها ففي الحديث عن أسماء بنت يزيد الأنصارية رضي الله عنها قالت : مر بي النبي صلى الله عليه و سلم و أنا في جوار أتراب لي (أي جالسة مع مماثلات لها في السن ) فسلم علينا و قال “إياكن و كفر المنعِمين (و ضبطت كذلك المنعّمين) قالت و كنت من أجرئهن على مسألته فقلت يا رسول الله وما كفر المنعمين ؟ قال صلى الله عليه و سلم ” لعل إحداكن تطول أيمتها من أبويها (أي تبقى في بيت أبيها دون زواج و في بعض روايات الحديث تعنس) فيرزقها الله زوجاً ثم يرزقها الله منه ولداً فتغضب الغضبة فتكفر (الكفر هنا كفر معصية و ليس كفر خروج من الملة ) فتقول ما رأيت منك خيراً قط” .
فعلى الزوجة مثل ما على الزوج من وجوب التحلي بالعدل و الإنصاف مع الزوج ، أيضاً إن كان للرجل أكثر من زوجة وجب العدل بين الزوجات لئلا يأتي يوم القيامة و عليه علامات الظالمين ، قال النبي صلى الله عليه و سلم كما في الحديث “من كان له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل” فوجب على الزوج أن يعدل بين زوجاته في الأمور المادية ولا حرج عليه في النواحي القلبية إذا لا يملك الإنسان قلبه.
و من أشكال العدل داخل الأسرة العدل بين الأولاد ذكوراً و إناثاً فتعدل بينهم في العطية و لا تفرق أحدهم عن الآخر و لا تميز الذكور على الإناث ، ففي الحديث الذي رواه مسلم قال: تصدق عليّ أبي ببعض ماله فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :فانطلق أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي فقال له : “أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا قال له النبي: اتقوا الله و اعدلوا في أولادكم” و في رواية قال النعمان بن بشير فرجع أبي فرد تلك الصدقة و في رواية أن النبي قال للنعمان بن بشير ” لا تشهدني على جور” .
فما أحوجنا إلى أن نقيم العدل و الإنصاف مع أولادنا و بين زوجاتنا ، و إذا فعلنا ذلك أثمر بركات كثيرة و فوائد جمة على جميع أفراد الأسرة نكتفي بثمرة واحدة و هي انتشار المحبة و الوئام و المودة و الرحمة بين أفراد الأسرة جميعاً، فإن الظلم يوجب النفرة و التباعد و التقاطع و لا يلتئم شأن الأسرة و لا يبارك فيها إلا بالعدل و الإنصاف ، و إن كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقصد الدول حين قال : ( إن الله يقيم الدولة العادلة و إن كانت كافرة و لا يقيم الظالمة و إن كانت مسلمة) فإن الأسرة دولة مصغرة بل هي نواة بناء الدول و الحضارات.