لم يكن طمس الهوية العربية من قبيل الصدفة، لكنه المخطط الغربى منذ مئات السنين . فقد انشغلت انجلترا وفرنسا بدراسة احتمالية عودة دولة إسلامية بعد سقوط الدولة العثمانية. فقاموا بإجراءِ دراسةٍ وبَحْثٍ عن أسبابِ قوةِ الفردِ المسلِمِ وسِرِّ امتلاكِهِ لتِلْكَ الصلابةِ الجبّارةِ التي مَكَّنَتْهُ مِن غَزْوِ العالَمِ مِنَ المحيطِ الأطلسيِّ إلى الهندِ حتّى وصلَ مشارِفَ فيينا، فوجدوا أنَّ السِّرَّ يَكْمُنُ في نِظامِ تعليمِ الطفلِ المسلمِ آنَذاك، حين كان يَذهبُ مِن سنِّ الثالثةِ حتّى السادسةِ إلى ما كان يُعْرَفُ بـ «الكُتّابِ» ليَحفظَ القرآنَ ويَختمَهُ. ولكَ أنْ تتخيَّلَ حجمَ القُدْرَةِ الإبداعيةِ لدَى مَن يحفظُ القرآنَ الزاخِرَ بأكثرَ مِن 50 ألفِ كلمةٍ تُمَثِّلُ أهمَّ وأفصحَ وأجملَ التركيباتِ اللُّغَوِيَّةِ والصِّيَغِ البَلاغِيَّةِ، تَثْبُتُ وتُحْفَرُ في الذاكرةِ، فيُتْقِنُها رغمَ استخدامِهِ للَّهجةِ العاميةِ في البيتِ، ما يَقيهِ الوقوعَ (يَحميهِ مِنَ الوقوعِ) في مشكلةِ الازدواجِ اللُّغَوِيِّ، أيْ الضياعِ بين لُغَتَيْنِ، عاميةٍ وفُصْحَى، لا يُجيدُ إحداهُما.
ثم يَسْتَكْمِلُ إتقانَهُ لها وهو في السادسةِ إلى السابعةِ مِن عُمُرِهِ بِتَعَلُّمِهِ قواعد نَحْوِها وصَرْفِها بِحِفْظِ أَلْفِيَّةِ ابنِ مالِكٍ التي تَضُمُّ ألفَ بَيْتِ شِعْرٍ تشملُ كلَّ قواعدِ اللغةِ العربيةِ الفُصْحَى. ناهيك عنِ الزَّخَمِ (الدَّفْعَةِ) الإيمانيةِ والخُلُقِيَّةِ الذي يَكْتَسِبُها مِن قراءتِهِ للقرآنِ، ويُلازِمُهُ طيلةَ حياتِهِ، فيَظَلّ يُؤْمِنُ بأنَّهُ ليس وحيدًا في نِضالِهِ، بل هُناكَ عَيْنُ اللهِ تحرُسُهُ دَوْمًا وتُؤازِرُهُ أَيْنَما حَلَّ.
لِذا كانَ الفردُ العربيُّ أكثرَ قوةً وصلابةً وإقدامًا مِن نظيرِهِ الغربيِّ، والفضلُ في ذلك كُلِّهِ يَرْجِعُ إلى نَوْعِ التعليمِ الأوَّلِيِّ المُتَمَثِّلِ في (الكُتّابِ).
وعلى ضَوْءِ نتائجِ تلكَ الدراسةِ خَطَّطَ الإنجليزُ والفَرَنسيون لِقَـتْلِ الهويةِ العربيةِ والعزيمةِ الإسلاميةِ، وذلك على النَّحْوِ التالي: في البلادِ الخاضِعَةِ للحُكْمِ الإنجليزيِّ تمَّ حَصْرُ تعليمِ القرآنِ في الكتاتيبِ ورَبْطُهُ بِفِئَةِ الفُقَراءِ والأُسَرِ المُعْدَمَةِ، والتَّوَسُّعُ في إنشاءِ مدارِسَ حكوميةٍ حديثةٍ للطبقةِ المتوسطةِ يدخُلُها الأطفالُ بعد السادسةِ لضمانِ انتهاءِ الفترةِ الذهبيةِ مِن حياةِ الطفلِ التي كان يُمكنُ أنْ يكتسِبَ خلالَها حصيلةً هائلةً مِن لُغَتِهِ الأُمِّ، وإنشاءُ مدارسَ أجنبيةٍ لأولادِ الأغنياءِ يكونُ تدريسُ اللغةِ العربيةِ فيها ضعيفًا جدًّا أو مَعدومًا، مع رَبْطِ التعليمِ الأجنبيِّ نفسيًّا واجتماعيًّا بالتَّـقَدُّمِ والتَّمَـيُّزِ الطبقيِّ وفُرَصِ الثراءِ.
أمّا في البلادِ الخاضعةِ للحُكْمِ الفَرَنْسِيِّ فاللُّغَةُ العربيةُ لم تَعُدْ تُدَرَّسُ في المدارسِ العامةِ، حتى كادَتْ تَتَلاشَى في تلكَ البلادِ إبّانَ الاحتلالِ الفرنسيِّ.
هذا ما ذكره الكاتب “جيسون ” فى كتابٌه «الإسلامُ الثوريُّ» والذى كان مُحَرَّمًا توزيعُهُ لفترةٍ استمرتْ 75 سنةٍ خَوْفًا من أنْ يُنَـبِّهَ العربَ والمسلمين إلى سِرِّ قُـوَّتِهِم وضعـفِهِم.
وهذا يذكرنى بأنه إلى الآن مازال الأطفال الذين يتربون فى الريف ويذهبون إلى الكتاتيب التى مازال بعضها موجوداً فى بعض القرى، أن الأطفال خريجيها يصبحوا من النوابغ .
إذن فنحن بحاجة إلى صحوة للرجوع إلى سر قوتنا.