لعبة موروثة من خمسينيات العقد الماضي، يتجمع فيها الأطفال على شكل دائرة، ويجلسون جنباً لجنب دون النظر للخلف ، فيما يمر حولهم أحد الأطفال وهو يمسك بيده طاقية ( قبعة) ليتصيد فريسة من الجالسين ويضع خلفه الطاقية، ليقوم بسرعة من مكانه محاولاً اللحاق بالصياد قبل أن يجلس في مكان الضحية الذي صار فارغاً، فإن عجز صار هو الصائد التالي، وهكذا تدور اللعبة بمرح كبير وأغنية جميلة في كلماتها، تستوحي نظرية التكيف والاندماج التي حيرت الكثير من الفلاسفة والمفكرين في تلك النقلة النوعية التي تحدث عند الأطفال، وهم يمارسون شتى أنواع اللعب الجماعي الذي يحاكي -باتفاق معظمهم- الغرائز المرتبطة بتطور الاكتساب للمعرفة وفضول التعلم .
ويعتبر(جيمس سولي) في كتابه (Easy on Laughter) أن الضحك والمرح المرافق للعب الأطفال جزءاً من النشاط الاجتماعي الذي يتجه نحو تحديد (المزاج الخاص للعب) مع وجود الرفاق بترك التحفظ جانباً، والتحرر من القيود عند المشاركة في الألعاب الجماعية، وهذا ما يجعل اللعب نوعاً من الاتجاه الاجتماعي الذي يحرك التنشئة العلمية والمعرفية لدى الأطفال، حتى في شجاراتهم ونزاعاتهم أثناء اللعب، فإنهم في الحقيقة يكتسبون مهارات جديدة لأسلوب حل المشكلات.
شارلوت بوهلر- العالمة في نفس الطفل، تصنف الألعاب التي تعتمد على الأجهزة الحسية والحركية التي يستخدمها الطفل أثناء اللعب مع رفاقهم بأنها: وسيلة لممارسة وظائفهم الخاصة، وأن شعورهم بالفرح والسعادة سبيل لتصويب الصعوبات السلوكية والتربوية، ويتطور(التفكير) في مرحلة اللعب،من خلال التمييز التدريجي للمفاهيم، والربط والمقارنة والتصنيف والترتيب والتوافق والتضاد ليتهيأ لمرحلة أعلى في التركيز والانتباه كلما تقدم الطفل في العمر.
ومنذ تمحور العالم على وسائل التكنولوجيا الالكترونية، حدث نوع من الانكماش النسبي في هذا البعد الحي لارتباط الطفل بالمحيط الخارجي، بعيداً نحولغة التواصل الرقمي، حتى صار مفهوم الجلوس وحيداً للطفل مألوفاً بعد أن كان نوعاً من المشاكل السلوكية والنفسية التي تحيط بغموض كبير وتخوف من فكرة الاغتراب الذاتي والعزلة وعدم الانتماء عند الطفل في سن مبكرة، بل وفي خضم أجواء (كوفيد- 19 ) وتبعاته الاجتماعية، صار من الصعوبة بمكان أن نوظف الاندماج الاجتماعي لدى الأطفال وصياغة شخصياتهم ضمن منظومة صحيحة منطقية تضمن لهم تنشئة اجتماعية، أوتحدث التقارب بين الأطفال وأقرانهم وتحولهم إلى أعضاء فاعلين في مجموعة أكبر.
ربما كان ذلك جانباً ليس بالهين فعلاً عندما يفقد الطفل الشعور الطبيعي بالرغبة في اكتشاف ما حوله، ويصبح ضحية التشتت والإقصاء الفكري والنفسي لأنه ينفصل عن الواقع داخل عالمه الافتراضي، ولأن الكثيرين ممن يعتبرون الألعاب الالكترونية بديلاً مقبولاً عن الألعاب الاجتماعية الحسية التي تحاكي غريزة الاقتراب والاندماج الاجتماعي؛ نظل نغوص في هوة تناقض كبير بين المثالية الافتراضية والخراب الواقعي الذي صار يتسلل إلى أطفالنا ليفكك نواة اللبنة الأولى لحياة المجتمعات في المستقبل.
ولكن يا سادة، إن الإنصاف يقتضي أن نعرف كيف تدار الدفة، فتطور الحياة وتقدمها لا يعني تحول أطفالنا إلى روبوتات لا حياة فيها، ربما آن الأوان أن نوازن بين ما نفقده وما نكسبه ونحن نواجه انحساراً شديداً نتيجة عوامل الحت والتعرية في هذه العوالم الافتراضية، التي تشهد حرماناً للعب الأطفال ونط الحبل والاستغماية والبلورات الزجاجية الملونة وغيرها، مما كان يعد تطوراً عاطفياً وفكرياً ونفسياً وسلوكياً في أيام خلت، فوجب علينا يا سادة أن نتدارك الخطوات التي تسقطنا في جب عميق، فلا نحن نتقن فيه فن السباحة، ولا نحن ننتظر سيارة تنفذنا من غرق محتم..!