أصبحت القدرة على توصيل الأفكار عبر وسائل الإعلام مفتاحاً لممارسة الأعمال في القرن الحادي والعشرين. يمكن لحملة إعلانية إبداعية أن تدفع بمنتج جديد إلى قمة السوق، ويمكن لحملة علاقات عامة قوية أن تُحدث ضجة في المجتمع وتأثير إيجابي على المنظمات لا يصدق، ويمكن أن يكون لها أيضًا تأثير سلبي إذا تمت معالجتها بشكل سيء. لذلك تحتاج المنظمات إلى اختيار المسؤولين عن اتصالاتها بعناية. وتعمل العديد من المهن على تحقيق هذا النجاح عبر هذه القنوات، وفي مقدمتها العلاقات العامة.
لكن العلاقات العامة -تلك المهنة الحديثة التي لا يتخطى عمرها قرن- بدأ اسمها يختفي خلال العقدين الماضيين، فبعدما تطورت ممارستها بشكل جذري، كما تطور تعريفها، وبدأت في الانتشار في الجامعات والوظائف الإدارية، فوجئنا بتغير مسماها، فعالمياً أصبحت الآن يطلق عليها “الاتصال الاستراتيجي” وهي تسمية يكثر استخدامها في الأوساط الأكاديمية، وفي بعض المنظمات يطلق عليها الاتصال المؤسسي. وقد بينت دراسة أجريت على 43 دولة أوروبية تفضيل مسمى “الاتصال المؤسسي” في الأعمال التجارية، و “الاتصال الاستراتيجي”، يليهما في التفضيل مصطلح “إدارة الاتصال”. قد تكون هذه التسميات المختلفة انعكاسًا لمجال ديناميكي معقد يحتاج باستمرار إلى التطور وإعادة التعريف، ولكنها تخلق ارتباكاً بين الأكاديميين والممارسين وفي سوق العمل. فمثلاً قد يتردد الطلاب في اختيار البرامج الدراسية والتخصصات، لأن التسميات والأسماء المتعددة للبرامج- التي تبدو متطابقة في الموضوعات والمقررات- يمكن أن تكون مربكة. وكثيراً ما تراودني تساؤلات حول مجال عمل الاتصال الاستراتيجي، وهل هو نفس مجال العلاقات العامة ، وما الفرق بينهما، وهل تعترف الخدمة المدنية بهذا المسمى الجديد؟ وقد لا يجد الخريج عملاً في القطاع الخاص، لأن المدراء لا يعرفون ماهية الاتصال الاستراتيجي، فهم يعرفون فقط العلاقات العامة. والأدهى أن بعض الأكاديميين لا يميز بينهما. وإن كان يبدوا أن الاتصالين المؤسسي والاستراتيجي ابني عمومة. إلا أن الاتصال المؤسسي ترجع أصوله لمجالي الإدارة والتسويق اللتان طالما حاولتا ضم العلاقات العامة لمزيجهما، أما الاتصال الاستراتيجي فنشأ من رحم دراسات الاتصال.
و وفقاً لاتجاه دولي بدأت العلاقات العامة مطلع القرن الحادي والعشرين مرحلة جديدة. لبثت فيها ثوب “الاتصال الاستراتيجي” الذي أصبح الآن مجالًا تعليمياً وبحثياً متنامياً في الجامعات العالمية. حيث تم تغيير أسماء البرامج الدراسية والدورات التدريبية الخاصة بالعلاقات العامة للإتصال الاستراتيجي، وقد أحصيت في هذا الصدد ما لا يقل عن 80 برنامجاً يحملون الإسم الجديد.
ولكن، ما موقف الجامعات العربية من هذا التغيير؟ عربياً كانت السعودية صاحبة السبق – والوحيدة – في هذا المضمار، وكان قسم الإعلام بجامعة الملك فيصل أسبق أقسام وكليات الإعلام في إنشاء برنامجين للاتصال الاستراتيجي(البكالوريوس والماجستير) مواكباً بذلك أحدث الإتجاهات العالمية في تدريس العلاقات العامة والبحث فيها، كما خطا خطوات سباقة نحو تأسيس جمعية علمية للاتصال الاستراتيجي لم تخرج بعد للنور، وإلى الآن لا يوجد برنامج دراسي للاتصال الاستراتيجي في الجامعات العربية سوى في جامعة الملك خالد، أما بقية الدول العربية فلا يوجد فيها برنامجاً واحداً يحمل المسمى الجديد في حدود اطلاعي، ولعل السبب في تجنب أقسام الإعلام العربية استحداث برنامج؛ الخوف من عدم معرفة سوق العمل بالمسمى الجديد، حتى لا يعوق الخريجين عن العمل، ومن ثم ترجئ الأقسام التغيير إلى أن ينتشر المصطلح الجديد. إلا أن تجربة السعودية بينت أن ذلك ليس مبرراً، فالخدمة المدنية أدرجت التخصص ضمن وظائفها بمجرد تخرج أول دفعة، في المقال القادم سنبين إن شاء الله سبب التسمية وأوجه الاختلاف.
ولكن ما هو سبب تغيير المسمى؟ لا شك أن هناك نفور من العلاقات العامة بسبب بعض الممارسات الخادعة والدعائية، لكن سبب تغيير المسمى ليس النفور من العلاقات العامة. وإنما لكون الاتصال الاستراتيجي مفهوماً أوسع وأكثر شمولية من العلاقات العامة، حيث يدمج مجالات مختلفة من الاتصال، ويوجهها نحو تحقيق الهدف. كما أن مجالات العمل في “الإتصال ” أوسع من العلاقات العامة، حيث تضم من يكتبون الأخبار أو يرغبون في نشر المعلومات للجمهور (العلاقات العامة، والمعلومات العامة، والتسويق، الإعلان)، ومن يقدمون الأخبار في الوسائل التقليدية والرقمية (الصحفيون، والمؤثرون، ومنتجو الفيديوهات…الخ). فالاتصال الاستراتيجي يتضمن وظائف في مجالات الإعلان والتسويق والعلاقات العامة والإعلام الرقمي، وكلها تتضمن استخدام اللغة، والصور والفيديو، لتوصيل رسالة المنظمة داخلياً وخارجياً. ولا شك أن اتساع هذا المصطلح – وكثرة المهن التي تندرج تحت مظلته – أحد العوامل التي تميز الاتصال الاستراتيجي على العلاقات العامة حالياً ، وتسهم في جذب الدارسين حتى للبرامج التدريبية، لاسيما مع ظهور مصطلحات مناظرة مثل الإعلامي الشامل.
كما أن هناك طرق جديدة وكثيرة الآن لوصول المؤسسات إلى الجمهور أكثر من ذي قبل، منها التقليدي والرقمي. فحتى لا يكون هناك أكثر من جهة اتصالية في المؤسسة تعمل بشكل منفصل (العلاقات العامة-التسويق الرقمي-الإعلان التقليدي-الاتصال الإداري…. الخ)، وحتى يتم التنسيق بين كل أشكال الاتصال عبر مختلف الوسائل بشكل هادف، لاسيما في ظل التعقيد المتزايد للمجتمع الرقمي العالمي الذي تحدي قدرة المنظمات على تقديم محتوى متوازن ومؤثر وهادف. إلى جانب البعد المادي والمتمثل في تقليل النفقات، لاسيما في الشركات متعددة الجنسيات، وهو نفس سبب ظهور مصطلح الاتصال المؤسسي.
في رأيي يرجع استخدام مصطلح الاتصال الاستراتيجي أو المؤسسي إلى الاعتقاد الخاطئ بأنه مصطلح أوسع من مصطلح العلاقات العامة، التي يُنظر إليها على أنها علاقات إعلامية فقط، مع أن العلاقات العامة نفسها، قد تبنت المنظور الاستراتيجي. وعرَّف أكبر كيان عالمي للعلاقات العامة -جمعية العلاقات العامة الأمريكية -العلاقات العامة على أنها “عملية اتصال استراتيجي تبني علاقات منفعة متبادلة بين المنظمات وجماهيرها.” وذلك في عام 2012، بعد استفتاء أجرته على ما يقرب من 10.000 عضو يتوزعون بين ممارس وأكاديمي.
أياً كانت الأسباب، فقد جاءت فكرة دمج الاتصالات المتنوعة في بوتقة واحدة هي الاتصال الاستراتيجي، لتضم عدداً من المسارات الوظيفية المختلفة، وتعمل على استخدام الاتصال لتحقيق هدف ما. وهو ما يختلف عن العمل في مهن مثل الصحافة وغيرها من الأعمال التي تتضمن الكتابة والاتصال دون وجود هدف استراتيجي دفع إليه العمل، فالصحفي مثلاً يكتب الواقعة كما حدثت بهدف الإخبار. في المقابل يعمل ممارسو العلاقات العامة في مجال واحد محدد من الاتصال الاستراتيجي هو: الحفاظ على علاقة إيجابية بين صاحب العمل والمجتمع. يفعلون ذلك من خلال استخدام الاتصال الموجه للجمهور، البيانات الصحفية والمناسبات الخاصة والخطب ووسائل التواصل الاجتماعي، وعقد مؤتمرات صحفية منتظمة والتفاعل مع وسائل الإعلام للإجابة على الأسئلة وشرح السياسات والإجراءات. وبغض النظر عن المؤسسة أو العمل أو الكيان غير الربحي أو المؤسسة الحكومية أو الخاصة التي يعملون بها، يقوم ممارسو العلاقات العامة بالترويج للأخبار الإيجابية قدر الإمكان، مع الحد من الضرر الناجم عن الأخبار أو الأحداث السلبية.
ويوجد قدر كبير من التداخل بين الاتصال الاستراتيجي والعلاقات العامة، حيث أن الأخيرة باتت مجموعة فرعية من الأولى. كل منهما يعتمد على الاتصال لوضع المنظمات في مكانة أفضل، ويتطلب مجموعة مهارات مماثلة: اتصال شفهي ومكتوب مؤثر، ومهارات شخصية قوية، والقدرة على البحث والتخطيط والإدارة، والقدرة على العمل بشكل جيد في فرق مع مختلف المهنيين.
وعلى الرغم من كون المجالين وثيقي الصلة، إلا أن هناك العديد من الفروق الرئيسية بين الاتصال الاستراتيجي والعلاقات العامة. تتعلق هذه الاختلافات إلى حد كبير بنطاق الاتصال المعني والطرق النموذجية التي ينشر بها الممارسون المعلومات. من حيث النطاق: من المرجح أن يجد متخصصو الاتصال الاستراتيجي أنفسهم يعملون عبر إدارات متعددة لتطوير خطة اتصالية للمؤسسة. يمكن أن يختلف عملهم اليومي، وقد تتغير مسؤولياتهم في المنظمة بناءً على احتياجات الاتصال الخاصة بها. أما الذين يركزون بشكل محدد على العلاقات العامة فمن المرجح أن يكون لديهم تركيز أضيق. ينصب اهتمامهم الأساسي على كيفية نظر الجمهور إلى المنظمة، وكيفية ضمان بناء علاقات إيجابية من خلال الرسائل الداخلية والخارجية. ويستفيد الأفراد المهتمون بممارسة مهنة الاتصال الاستراتيجي من دراسة إدارة القضايا والأزمات، والاتصالات التسويقية، والحملات الإعلامية الرقمية، وكلها ضرورية للعمل في مجال الاتصال الاستراتيجي.
وفي المقابل برز مسمى آخر هو الإتصال المؤسسي، والذي يستخدم بدلاً من العلاقات العامة في العديد من منظمات العمل العالمية والعربية، وينظر إليه على أنه تطوير لمفهوم العلاقات العامة. ويستمد الاتصال المؤسسي جذوره من الكلمة اللاتينية “corpus”، والتي تعني “الجسم كله”. ويفترض الإتصال المؤسسي أنه من الممكن ومن المرغوب فيه أن تتواصل المنظمة من خلال كيان أو وحدة واحدة. مدعياً وجود منظور استراتيجي وإداري غائب عن العلاقات العامة يقود عملية الترابط المتبادل بين أداء المنظمة وهوية وسمعة الشركة من ناحية، كما يؤدي لتنسيق الاتصالات من ناحية أخرى. كما يرى منظروه أنه فقط القادر على دمج العلاقات العامة والتسويق والاتصال التنظيمي ضمن منظور إداري استراتيجي واحد.
وفي النهاية تؤكد هذه التسميات المختلفة على أهمية الوظيفة الإتصالية في العصر الحاضر، وأنها مهنة مستقلة يبلغ عمرها قرن من الزمان، تتوارى لتكون مجالاً فرعياً ضمن مجال ناشئ شامل. وسواء اختلفنا أو اتفقنا مع هذه التغييرات فلا بد أن نكون على دراية بهذه المسميات وأبعادها.