أيتها الحروف الساكنة في الوجدان، أيتها الكلمات المنغرسة في الجنان، أيتها الجمل الزاخرة بالمعان، أيتها التعابير العابرة للثقلان ، أيتها اللغة التي نتلو بها القرآن. تحية ابن لأبوته، و وليد لأمومته، و تلميذ لأساتذه .تحية تزخر بالمشاعر المتلاطمة، و الدلالات المتراكمة، و الإيحاءات المتلازمة. تحية في هذا اليوم الذي قرر عالمنا الحالي، أن يجعله يومك، و إن أيامك لتملؤ الدنيا حياة و إشعاعاً. تحية في هذه السنة التي (آذنت بصرم، وولت حذاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها)، و تحية لك في كل الأيام و السنين، و على مدار الزمن، يا لغة الإيمان و المؤمنين.
لغتي المباركة… إن إنتماءنا إليك، يجعلنا نفتخر، و نحمد الله الذي جعلك لنا لساناً، لنبين به الحق تبياناً. لقد جعلك الله لغة قرآنه، و لغة أهل إكرامه و رضوانه، فأي شرف أسمى مما شرفتِ به! كم من شعر بديع أنتجتِ، و كم من مقال رصين كتبتِ، و كم من كتاب ثمين أخرجتِ! فعلى مدار أربعة عشر قرن، يتلى كتاب الله، لساناً عربياً مبيناً، ليعجز الكاتبين، و يبهر المفكرين، و يخرس الناقدين، و يأسر السامعين، و يهدي الزائغين، و يملأ قلوب المسلمين إيماناً و محبة و نوراً و بركة و ثباتاً.
أيتها اللغة الجميلة…
إن كلماتك تلامس لب المعنى، و تتغلغل في أوردة المشاعر، و تنغرس في مفاصل التعبير، فيجد الناطق و الكاتب و السامع نفسه، تحن إليها حنين البعير لأمه، و تجلها إجلال الجنود للملوك، و تحترمها احترام التلميذ الأديب للأستاذ الأريب فمعانيك لا تحصى، و بحورك لا تغيض، و حروفك لا تتلعثم. أيتها الجوهرة الغالية… سامحينا، حينما نكتب في دساتيرنا أنك اللغة الرسمية، و نظل نتواصل بلسان أعجمي غير مبين سامحينا، حينما نُجل غير ناطقيك، و نغوص في بحيرات الألسن الأخرى، لنبحث عن درر المعاني و لآلئ التعبير، و نترك بحرك اللامحدود لا غائص فيه. سامحينا، حينما نتراسل بحروف غريبة علينا، دون أن نصنع من حروفك المتألقة، جواهر الرسائل و بديع المقال. سامحينا حينما نعجز أن نخترع مصطلحات و أسماء لأشيائنا الجديدة، دون أن ننظر في ما حويتِ من أسماء و دلالات، و ما اتسعت له من تركيب و مآلات سامحينا، فإننا اليوم غثاء كغثاء السيل، و إن من فتحوا اليرموك و القادسية و القسطنطينية، لم يُعد التاريخ كتابتهم بعد..
سامحيني أيتها الحسناء، و لعل قومي يسمعون ما أنشده أمير الشعراء أحمد شوقي، حين يقول على لسانك.
أَيَهجُرُني قَومي عَفا اللَهُ عَنهُمُ
إِلى لُغَةٍ لَم تَتَّصِلِ بِرُواةِ
سَرَت لوثَةُ الإِفرِنجِ فيها كَما سَرى
لُعابُ الأَفاعي في مَسيلِ فُراتِ
فَجاءَت كَثَوبٍ ضَمَّ سَبعينَ رُقعَةً
مُشَكَّلَةَ الأَلوانِ مُختَلِفاتِ
إِلى مَعشَرِ الكُتّابِ وَالجَمعُ حافِلٌ
بَسَطتُ رَجائي بَعدَ بَسطِ شَكاتي
فَإِمّا حَياةٌ تَبعَثُ المَيتَ في البِلى
وَتُنبِتُ في تِلكَ الرُموسِ رُفاتي
وَإِمّا مَماتٌ لا قِيامَةَ بَعدَهُ
مَماتٌ لَعَمري لَم يُقَس بِمَماتِ
فهنيئا مريئا لنا بك، و هنيئا للأمة الإسلامية بلغة قرآنها، و لسان بيانها، و قلم شرعها و برهانها. و إلى غدٍ، نجد فيه أنفسنا أكثر وفاء للغتنا، و أقوى انتماء لعروبتنا، و أقرب اتصالاً بأصالتنا، و أعز منزلة بمصدر فخرنا و قوتنا.