تمثل كتب الفقه الإسلامي ثروة فكرية كبيرة لدى المسلمين، وتمثل تراكماً معرفياً مهماً في حياة الأمة؛ ومع ذلك لابد من التنبه إلى أنها أفهام للنصوص، وأقيسة وفتاوى واجتهادات لا نصوص محكمات وآيات بينات.
ولهذا نجد التطور المعرفي شكلاً وموضوعاً في مختلف المذاهب الفقهية، فما كُتب في زمن مؤسس أي مذهب أو بعده بقليل يختلف شكلاً وموضوعاً عما كتب بعد ذلك بثلاثمائة سنة مثلاً، من حيث التبويب الفقهي والتقسيم العقلي، بل وحتى التناول الموضوعي كالتفريع والتخريج والاستدلال والترجيح.
وها نحن نصل إلى مرحلة أخرى من المراحل التي تقتضي نوعاً من التجديد الفقهي، والتناول المعرفي كطور طبيعي فرضه تغير العصر واختلاف الأزمان وتبدل الأحول.
وقبل أن أتناول التجديد الفقهي أود التنبيه إلى ثلاث مسائل في غاية الأهمية:
الأولى: التجديد الفقهي لا يقصد به الخروج عن النصوص المحكمات، أو الإجماعات الثابتات، بل يتناول الأسلوب والعرض و التقسيم والتبويب شكلاً ؛ والمسائل الفقهية والاجتهادات والمسائل النازلات في عصرنا، بالحذف أو الإضافة موضوعاً.
الثانية: لا يعنى الحديث عن التجديد الفقهي أن ننسف تراثنا الفقهي ونتنكر له، كلا بل نبني عليه ونستفيد منه ونسعى لاستكمال نواقصه.
الثالثة: عند الكلام عن التجديد الفقهي لا نقصد فتح الباب لكل متسلق على العلم، أو متطفل على الفقه أن يخوض غماره، بل نوجه حديثنا لعلماء الأمة وفقهائها المشهود لهم بالعلم إذ إنهم أهل الفن والاختصاص ولا يتأتى التجديد من الغرباء الأدعياء.
والتجديد الذي نتحدث عنه يكون من محورين: من حيث الشكل ومن حيث المضمون.
أولاً : التجديد من حيث الشكل:
من وجهة نظري فإن كتب الفقه تحتاج إلى التجديد من حيث الآتي:
– إعادة الصياغة والكتابة بأسلوب سهل سلس في متناول طلاب العلم في زمننا.
– حسن العرض والتبويب والتقسيم بما يتناسب مع عصرنا.
– البعد عن الإلغاز والإغلاق وعود الضمائر والإضمار في المتون والمنظومات القديمة.
– تحويل المقادير والموازين والمقاييس القديمة إلى ما يقابلها في عصرنا وزمننا.
– استبدال أسماء الأماكن الجغرافية، بما هي عليه في عصرنا، أو ذكر ما يقابلها من الأسماء في عصرنا.
ثانيا: التجديد من حيث المضمون:
أما التجديد من حيث المضمون فيمكن رصده من عدة نقاط كما يأتي:
1- تجريد الكتب من المسائل التي لم يعد لها وجودٌ في زمننا، كمسائل العبيد والإماء والعتق والمكاتبة والتدبير، وأحكام أمهات الأولاد من الإماء والزواج من الإماء والجواري، وجنايات العبيد وأحكام العتق وغيرها.
2- إضافة ما جد في واقع الناس في عصرنا في جميع أبواب الفقه ابتداءً من كتاب الطهارة وانتهاءً بكتاب الدعاوى والخصومات، والتمثيل بها والاستدلال لها، بدلاً من بعض المسائل القديمة، كالتمثيل بالصلاة على السيارة عقيب التمثيل بالصلاة على الراحلة، والصلاة على الطائرة بعد ذكر الصلاة على السفينة، وذكر مفطرات الصيام المعاصرة، وأحكام بعض العقود المستجدة، كالتأمين وبيع الأسهم؛ وكاستبدال الرمح والفرس والجمل بالمسدس والبندق والسيارة في أبواب السبق والرمي، وهكذا..
3- رصد النوازل المتعلقة بأبواب الفقه وإدراجها في مواضعها، وذكر الاجتهادات الجماعية المعاصرة للهيئات الدولية والمجامع الفقهية المتعلقة بها، كإجراء العقود عبر شبكة المعلومات الدولية(الانترنت) في كتاب البيوع والنكاح، والتلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب في أبواب النكاح، وبنوك الحليب في أبواب الرضاع، ومسائل المعاهدات والأمان وتوزيع الغنائم وقسمتها والاسترقاق في أبواب الجهاد .
4- الاستفادة من العلوم المعاصرة في مختلف المجالات، في الترجيح بين الأقوال أو تصحيح بعض الأقوال وتوجيهها، كالاستفادة من التقدم الطبي في معرفة كثير من أحكام الحيض، وجواز الوضوء بالماء المشمس من عدمه، وتقرير أقل فترة الحمل وأكثره، ووقت نفخ الروح في الجنين وتخلقه وغير ذلك.
والاستفادة من علوم الفلك في تحديد مواقيت الصلاة ، ورصد وحساب الأهلة واختلاف المطالع، وتحديد القبلة وغير ذلك.
5- بيان حِكَم التشريع في مختلف الأبواب الفقهية، وتوضيح مقاصد الشرع فيها وربطها بعللها، كبيان مقاصد الزكاة وربطها بواقع الناس وأثرها الاقتصادي، والربا وخطره على اقتصاد الفرد والمجتمع وغير ذلك.
6- الاستفادة من النتاج العلمي والمعرفي الجديد، وبيان الأحكام الشرعية بحسب الأبواب الفقهية، مثل: ما أنتجته العقول المعاصرة من علم المحاسبة المالي، وفرضه على الشركات والدول والمنظمات والهيئات، وبيان ما يتعلق منه بأحكام الشريعة كحساب الزكاة، بأن تضاف فصول في كتاب الزكاة بعنوان (حساب زكاة الشركات)، أسوة بكتاب المواريث، إذ فيه فصل بعنوان( باب الحساب). ومثل: ما أنتجته العقول المعاصرة من البنوك والمصارف، وتوضيح أنواع العقود والتعاملات فيها.
7- لابد من دمج ما كتب في السياسة الشرعية وإدخاله في كتب الفقه، كفصل أو باب من أبوابه، أسوة ب(كتاب القضاء) الذي تعج به كتب الفقه، بل هو أهم منه.
أخيراً:
هذا مشروع كبير، والتجديد فيه يحتاج لجهد جماعي، بل هو في الحقيقة مشروع الأمة، يجب عليها من خلال علمائها وهيئاتها العمل عليه والقيام به، وهناك العديد من الجهود الفردية التي تمثل نماذج مشرقة يمكن البناء عليها والاستفادة منها واستكمالها.