هي ليست دولة تحت بحورها الذهب الأسود، ولا تمتلك ناطحات السحاب ، ولا هي مملكة داخلها المصانع والشركات الاستثمارية ، ولا يوجد فيها منتجعات للصيف ، وليس فيها متحف يحفظ الأواني الأثرية والتاريخية ، بل هي المدينة الفاضلة التي تحدث عنها الفارابي راسمًا لوحة مشرقة للحكمة داخل لغة الضاد والحضارة الاسلامية والانسانية .
تعالوا في هذا المقال أصحبكم أعزاءي القراء في جولة ميدانية نتعرف فيها على غزة العزة ..
هي غزة هاشم ، مدينة تقع في أرض فلسطين اسم إذا سمعناه تبادر إلى أسماعنا وأبصارنا معنى البطولة والشهامة ، هي مصنع الرجولة، تقع في الجنوب الغربي من فلسطين ، وتحديدًا على الطريق الساحلي للبحر الأبيض المتوسط ، تبعد عن القدس مسافة 78 كم إلى الجنوب الغربي ، طول قطاع غزة 41 كم، وعرضه من 6 إلى 12 كم ، مساحتها الإجمالية 365 كم ، منذ القدم والعرب يطلقون عليها اسم “غزة”، أما في عصر الاسلام أطلق عليها اسم غزة الهاشم نسبة إلى جد النبي “محمد صل الله عليه وسلم ” هاشم بن عبد مناف الذي توفي فيها ، في غزة ولد الإمام الشافعي صاحب المذهب الاسلامي الشهير الذي قال فيها : وإني لمشتاق إلى أرض غـزة ، وإن خانني بعد التـفـرّق كتماني .. سقـى اللـه أرضاً لـو ظفرت بتربـهـا… كحلتُ به مـن شدة الشوق أجفانـي ، أما الرحالة الشهير ابن بطوطة والذي زار غزة خلال رحلاته ، كتب عنها فقال: “سرنا حتى وصلنا إلى مدينة غزة، وهي أول بلاد الشام مما يلي مصر. متسعة الأقطار، كثيرة العمارة حسنة الأسواق، بها المساجد العديدة والأسوار عليها، وكان بها جامع حسن، وهو أنيق البناء، محكم الصناعة، ومنبره من الرخام الأبيض”، وفق تعبيره بكتابه الشهير “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” المتضمن وصفاً لرحلاته.
يقول يوسابيوس القيصري الذي أطلق عليه “أبو التاريخ الكنسي”، وقد عاش في القرن الرابع بعد الميلاد، إن “غزة” تعني العِزة والمَنَعة والقوة ، نعم انها غزة العزة ، عزة النفس والكرامة والشهامة و القوة والعظمة التي تتمتع بها هذه المدينة، وتعتبر رمزًا للتميز والاختصاص .
أما صفات أهل غزة ، فهم أناس طيبون غير متمسكون في الحياة ، تجد لديهم المروءة والنخوة ، اذا قصدتهم بحاجة ما تجد عندهم الشجاعة والتضحية ، اذا ناداهم واجبهم الوطني يضحون بأنفسهم وأولادهم وكل ما يملكون ، هم مقربون الى الله تعالى دائماً يطلقون عبارات مثل : “أين نحن من الصحابة ، يحرصون على كرم الضيافة ، من أولويات حياتهم الصلاة وأداء الشعائر الدينية ، يعبرون عن أراءهم من غير خوف خاصة الأمور السياسية، يحبون وطنهم حباً شديداً ، يحترمون المرأة ودائما يدافعون عن حقوقها ، يحافظون على حياتهم الزوجية والأسرية وهي مقدسة بالنسبة لهم، وتعتبر غزة من أكثر مدن العالم كثافة في السكان ، تشتهر غزة بالمنشآت الصغيرة، والحرف اليدوية، مثل صناعة الفخار، والمنسوجات، بالإضافة إلى تربية المواشي، كما تنتشر فيها زراعة الحمضيات والزيتون، ويتحدّث سكّانها باللغة العربيّة، والإنجليزيّة ، فضلًا عن اشتهارها بصناعة الزجاج، وتعتبر هذه الحِرف من الحِرف المتوارثة عبر الأجيال، التي تشبه إلى حد كبير الحرف الفلسطينية الأخرى ، وهناك عدداً من المَعالِم البارزة في مدينة غزة ، وأهمّها المساجد، ومنها الجامع العُمَريّ الكبير، ومسجد السيّد هاشم، وجامع ابن عثمان، ومسجد علي بن مروان، وتلّ المنطار، وقلعة نابليون (قلعة الرضوان)، وعن الجامعات ففيها الجامعة الإسلاميّة في غزّة، وجامعة الأقصى، وجامعة الأزهر، وجامعة القُدس المفتوحة.
هذه غزة التي عرفها التاريخ وكل من مر بها ، لكنها اليوم باتت حطامًا ، أصبحت غزة مكسورة الخاطر من إخوانها العرب قبل أعدائها من الصهاينة والأمريكان وغيرهم من المعاونين على حرقها ، غزة لم تعد تشبه غزة الأمس، لم يعد في غزة أبنية سكنية ، لأنه لم يعد فيها بشر يسكنون المنازل ، أصبحت غريبة على أهلها ، فباتت مدينة اشباح بعد ما حرقتها القنابل الفسفورية والمحرمة دولياً ، لم يعد في غزة مدارس لأن جميع الطلاب نالوا درجة واحدة هي أعلى الجنان ، لم يعد في غزة كرم للضيف لأن ما تبقى من أهلها يعانون المجاعة وغابت البيوت التي يستضيفون فيها الضيف ، لم يعد في غزة مساجد ، لأن المصلين فيها يقيمون صلاتهم حول عرش الرحمن ، لم يعد في غزة مشافي ، لأن الاطباء والممرضين أصبحوا شهداء ، لم يعد في غزة بنية تحتية ، لأن أهلها اصبحوا جميعاً تحت الأرض ، لم يعد في غزة جامعات للعلم والمعرفة ، لأن معرفة أهل غزة بإخوتها المسلمين لم تكن كما عهدها الاسلام .
يا أمة الاسلام لم يعد في غزة إلا رائحة الدم يخضب كل شبر فيها والموت يلف المكان ، لقد رميتم فلسطين وغزة في البئر ، لقد ماتت قلوب العرب وماتت معها النخوة ، وضاق بك الحال يا غزة ، ولكن صبرا آل ياسر، لقد رأينا فيك صبر أيوب ، وشجاعة خالد بن الوليد ، وتقوى الامام علي كرم الله وجهه ، وصبر الخنساء ، لقد رأينا في غزة أهوال يوم القيامة ، وبعد هذا لم تعد غزة مدينة ، بل أصبحت أكبر مدرسة لتعليم أصول التضحية من أجل الدين والعرض والارض والكرامة ، وتعليم الاجيال كيف يكون الابداع في الظروف الصعبة والمستحيلة ، يقول ابن خلدون : انّ المجاعةَ التِي أصابت خِلافةَ عُمر (رضي الله عنه) أنشأتْ جيلاً أسقطَ إمبراطوريتيّ الروم والفرس ، والحياةَ الرغيدة التي خيّمت في الأندلُس وبغداد، أضاعت بلاد الإسلام كُلِها ، لا تبتئس في الظروف الصعبة ، فهي مصنع الرجال.