إن المعرفة هي ما يتوجب على الإنسان أن يعرفه من أجلّ أن يتدبر شؤون حياته ويحقق هدف وجوده, ويرتبط هدف وجود الإنسان مع هدف وجود الكون، وإذا عرفنا هدف وجود الكون، فسوف نعرف هدف وجود الإنسان. أن العلم الحديث لم يستطع التوصل إلى معرفة سبب الوجود وهدفه، إلا إنّه يقر بأن المادة قد وجدت نتيجة لتفاعل الطاقة التي أعطت الذرة ومنها تفاعلت الذرة وأَوجدت المادة, وإنّ هذا الشرح العلمي لا يُعتبر كافيًا بالمقارنة مع ما تُقدمه العلوم الذاتية، بما فيها المعرفة الدينية، لذلك لا يمكن اعتماد النظرية العلمية لتحديد هدف الوجود.
تُظهر الدراسة التحليلية للعلوم الدينية على اختلافها، بما في ذلك الديانات القديمة، بأن الوجود هو تجلي للطاقة الإلهية, وهذا ما معناه أن الوجود هو انعكاس لله غير الظاهر في المادة الظاهرة، وفي نفس الوقت الله متغلغل في الوجود كله, وإذا كان الوجود هو تجلي الله وإظهار مجاله وطاقته، فيكون بذلك هدف الوجود هو إظهار للكمال الإلهي في المادة, ومع تحديد هدف الوجود في إظهار الكمال الإلهي في المادة، يكمن هدف الإنسان في السماح للمادة أن تعكس الكمال الإلهي, ونحن بدورنا سوف نبين الأمور والأفعال الرئيسية التي بها تتحقق الحياة هدفها، حيث نرى إنّ هدف وجود الإنسان في أن يعيش الغبطة والسعادة لذلك على الإنسان أن يعرف كيف يعيش على الكمال.
يذهب الإنسان إلى تنظيم حياته فيتدخل في وضع قوانين جديدة من صنعه، وهنا يدخل عامل آخر وهو الوعي الجماعي الذي له التأثير المباشر على القوانين التي يضعها الإنسان, وحسب الآراء المختلفة تتضارب القوانين ويصبح القانون المعتمد في مكان ما يختلف مع القانون المعتمد في مكان آخر، وذلك ما يعني طبيعة وضع الإنسان للقانون، وهنا نقول إذا كان القانون الذي يعتمده الإنسان لا يصح في كل زمان ومكان، فيكون هذا القانون غيرَ كاملٍ، وإذا كان القانون غير كامل فهل يمكن أن يصل غير الكامل إلى الكمال؟ وبالتأكيد لا ولذلك لا يُمكن للقانون الذي يضعه الإنسان أن يتم اعتماده من أجلّ تحقيق هدف الحياة في أن يعيش الإنسان بالسعادة والغبطة والبحبوحة والنور.
إنّ المُدقق في الفكر الإسلامي يصل إلى أن الكمال هو الأصل في الجلال والجمال سواء أكانا مفهومين أم كانا قيمتين أي أنه الجوهر فيها, بمعنى إنّ الكمال في الشيء هو الذي يجعله جليلًا أو يجعله جميلًا كما أن افتقار الشيء إلى الكمال يجعله بالضرورة قبيحًا فلا يمكن الحديث عن الجلال أو الجمال في غياب الكمال عن الشيء, حيث يُمكن الحديث عن الكمال بمعزل عن ذلك المفهومين أي ماخوذًا من وجهة نظر وجودية أو معرفية لا من وجهة نظر كمالية.
أن الفكر الإسلامي يتناول مفهوم الكمال من مستويات ثلاثة: المستوى الوجودي والمعرفي والجمالي..
فعلى المستوى الأول: تم تحديد الكمال على أنه صفة العلة الأولى، وعلى المستوى الثاني: يتم النظر على أن كمال المعرفة في معرفة الله تعالى، وعلى المستوى الثالث: يتم التعامل مع الكمال على أنه الأصل أو الجوهر في الجلال والجمال وفي الموقف الجمالي منها, وحيث تتميز الشخصية الإسلامية الإدارية بإنّها شخصيةٌ عقلية أي يُسيطر العقل فيها على كل تصرفات الفرد و بواعثه ودوافعه و عواطفه وغرائزه وطريقة تفكيره, فللعقل مقام القيادة والتوجيه في الشخصية الإسلامية وذلك يظهر أثره واضحًا في مجال السلوك والعلوم والمعارف, فسلوك المسلم لا يخضع للاندفاع الغريزي التائه ولا للميل الأناني والهوى الشخصي الذي تضيع فيه قيم الحق والعدل وتتلاشى أمامه قواعد الأخلاق بل يدور السلوك عنده في امتداد أبعاده واختلاف مظاهره حول مركز العقل ويتحرك على ضوء إشارته وهدى صوته, بل إنّ للشخصية الإسلامية مثلًا أعلى وقيمًا عُليا رائدة في الحياة تتمثل في تصور الإنسان المسلم قيم الخير وكمال البشر والذي تحقق مُجسدًا في القوة الفذة للرسول وصحابته الكرام كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾(), فالشخصية الإسلامية تنزع دومًا إلى الوصول إلى هذا المثل الإنساني الأعلى وتُبرمج مسيرتها وتُصحح مواقفها على ضوء هذا المقياس, وهي تجد قبل هذا المثل الإنساني الحي فكرة الكمال الإلهي المتسامي وتعرف صفات الخالق العظيم المتصف بالخير والكمال المطلق من العدل، والرحمة ، والصدق ، والكرم، والحلم والعلم الشفقة والسلام حيث تكون تلك الصفات المحبوبة لدى المسلم؛ لأَنّها صفات معبودة فهو دومًا يتجه نحوها بنحو ينزع إلى الاتصاف بما يلاءم إنسانيته من معانيها أملًا في تحقيق مرضاة الله وسعيًا وراء الكمال الذي يوصله إلى النعيم والفردوس, وفي سيرة الكمال يقول الإمام علي بن أبي طالب في ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم: أول الدين معرفته (2) فمعرفة الله والإقرار بألوهيته هي الاعتقاد النظري بإنّ للعالم إلهًا وهو ما يشترك فيه المشرك الموحد كالوثنيين والثنويين وأهل الكتاب والمسلمين وكل من اعترف بالإله وأذعن بوجوده وخضع له, وكمال معرفته التصديق به توحيده(3)؛ إذ أن هذا التصديق هو الذي يوجب خضوع الإنسان له في عبوديته وبهذا التصديق يرسخ الاعتقاد, ولذلك كان هذا التصديق كمال المعرفة وكمال التصديق به توحيده هو إثبات أنه تعالى واحد لا شريك له وبذلك تميز الدين الإسلامي ” إن الدين عند الله الإسلام ” عن أصحاب كتب سماوية ضلوا فأشركوا مع الله إله أخر والتوحيد هو كمال التصديق به, وكمال توحيده الإخلاص له .
المراجع
(1) سورة الأحزاب الاية (21).
(2) الإمام علي بن أبي طالب “نهج البلاغة”، شرح الشيخ محمد عبدة، دار الكتاب العربي، بغدادـ شارع المتنبي، ط1، 2007ـ ص21.
(3) الإمام علي بن أبي طالب : نهج البلاغة ، ص21-22.