نعيش اليوم في ظل الطفرة التكنولوجية الاستثنائية؛ حالة من التغير المتسارع و المستمر، الذي يشمل كل أصناف و ميادين الحياة. و أصبح هذا التغيير يفرض نفسه على الواقع و يشكل واقعاً موازياً للواقع الأول يسلبه أحياناً كل صلاحياته ؛ و يوجهه إلى بوصلته رغم أنفه في أغلب الأحيان.
مما جعلنا نتساءل كيف يمكننا أن نوفق بين الواقعين الافتراضي و الحقيقي دون ان نفقد البوصلة؟
في عالمنا اليوم و أمام التنافس الهائل في مجال تكنولوجيا التواصل الاجتماعي و الذي يحكمه رجال أعمال عالميين من اكثر رجالات العالم شهرة و أكثرهم ثراء؛ صار لكل فرد عالمه الافتراضي الذي يأخذ في بعض الأحيان 90% من وقته.
و من خلال ذلك و نظراً لحركية الحياة المدنية و انشغالاتها الكثيرة، و لأن مهندسي تكنولوجيا التواصل يريدونه أن يحاكي الواقع بأكبر نسبة ممكنة؛ جعلوا الأشخاص يعتمدون عليه في أدق تفاصيل حياتهم.
ثم أصبح كل كيان اجتماعي أو مأسسي يسعى لتمثيله في الواقع الافتراضي من نافذة الاستفادة من خدماته، و مسايرة لذلك الواقع الافتراضي الذي أكتسح الواقع الحقيق في كل مجالاته.
و لأن الجانب المؤسسي يحتاج بطبيعته للاستفادة من ذلك العالم الافتراضي، الذي يسهل عمله كثيراً ، رغم بعض السلبيات المتجاوزة.
إلا أن الجانب المجتمعي و خصوصاً في زاويته العمومية التي تلامس المواطن البسيط في ذاته و عشيرته و قريته و مدينته؛ و كياناته المختلفة المبنية على معايير العشرة و القرابة و الجوار و الصداقة أحياناً.
تلك الكيانات وجدت نفسها تلقائياً تموج بها أمواج العالم الافتراضي في بحر لجي؛ و تغمرها مياهه حتى تكاد تغرقها؛ خصوصاً أنها لم تتهيأ للسباحة في ذلك البحر و لم ترسم ضوابطاً و لا أهدافاً و لم تدرس مآلات ما هي فيه، بل وجدت نفسها دون سابق إنذار في متاهات ذلك العالم الذي يصعب ضبطه حتى على الذين أنتجوه و أرادوا الاستفادة منه.
إن الكيانات المجتمعية أصبحت اليوم محاصرة بما تنتجه ماكينة التواصل الاجتماعي من أمور تفرض نفسها على الواقع و تجعل القيادات المجتمعية في حيرة من أمرها؛ فلا يملكون إلا التفاعل معها بغض النظر عن مصداقيتها.
فلم يعد حديث الاثنين بمنأى عن التسرب و لم تعد كلمات ذلك النافد التي لا يلقي لها بال متروكة للنسيان في حيزها الضيق؛ بل هي لحظة نطقها، تنطلق في رحلة مكوكية تتبادلها مجموعات التواصل الاجتماعي و تعيد تحليلها و تصنيعها من خلال إسقاطها على واقع أولئك و استغلالها لأهدفهم الضيقة ثم إخراجها كمنتج جديد، ربما يسبب فوضى عارمة تخلق رأياً عاماً في إطارات مجتمعية أوسع حتى تصل حيز الوطن لتصبح رأياً عاماً وطنياً بل تخترق حدوده أحياناً .
إن المجتمع الافتراضي الذي تنتجه وسائط التواصل الإجتماعي ظاهرة جديدة نسبياً على كثير من البلدان؛ تحتاج إلى وضعها قيد الدراسة و توجيه البرامج التوعوية حولها و استهدافها بنفس البرامج التنظيمية التي توجه لمجتمع الواقع؛ حتى يمكن ضبطها بشكل أفضل .
و كذلك تحتاج إلى استحضار المسؤولية التامة من خلال من يصنعون كياناتها دون أن يتعاملوا معها بأنها مجرد أدوات ترفيهية، في نفس الوقت الذي يرونها تتحكم في الرأي العام و توجه واقعهم الحقيقي بقوة يصعب الحد منها.
إن الدول تضع الأنظمة و البرامج لضبط المجتمعات و توجيهها و رعايتها و السهر على مصالحها، تعتمد الآليات المناسبة لذلك من تقسيم إداري و إقامة المؤسسات الخدمية المختلفة التي تنظم شؤون المجتمع من ألفها إلى يائها.
و لعلنا اليوم بحاجة لصياغة أنظمة و برامج محكمة لضبط المجتمعات الافتراضية التي أصبحت أكثر حضوراً من المجتمعات الواقعية و التي هي صدى لحراك افتراضي أصبح يشغل جل حياتنا إن لم أقل كلها.