القراءة والفراسة وركوب الأمواج

on 27 November 2022, 08:00 AM
د.محمد الزبن
د.محمد الزبن

تحت غطاء الليل، وفوق وطاء الأرض، يفترش الوالدان الهموم والاهتمامات، ويبدآن بيدين حانيتين يقلعان الشوك من طريق أبنائهم، حتى إنهما يبكيان من ألم أصاب الأبناء، ويفرحان لسعادة تغمر الأبناء.


وفي عالم الأُسرة هناك أساسيات تنبني عليها التربية، وإذا غفل عنها الأبوان تاه الأبناء حتى يجدونها بعد جهد جهيد، وعناء شديد.


وإنّ المجتمع الذي يريد أن يتطور، لا بدّ أن يأخذ بعين الاعتبار الأولويات التي يقدمها للأجيال الصاعدة، وأن يحمل على عاتقيه إرشاد النشء بشتى السبل وأيسر الطرق، فقد يكون الأبوان فاقدَيْن للثقافة العامة، لسبب أو لآخر، وقد يكونان على درجة عالية من التعلم، إلا أنهما يخفقان في ميدان التعليم.


وهنا يأتي دور المجتمع وما ينوب عنه من مؤسسات حكومية، تيعى لترسيخ المفاهيم والمبادئ التي تأخذ بيد الأبناء نحو التميّز والقمة والسعادة، ومن غير مرشد فلن نتحصل على نشءٍ راشد، ومن غير دليل واعٍ لن يكون هناك جيل صاعد.


وإنّ مما ينبغي عدم فواته في التربية: معرفة القراءة التي بها يفهم حياته، ويعرف حدوده، ويتعلم حقوقه، ويحفظ واجباته، ويسلك الطريق الآمن، ويحذر المهالك، وينأى بنفسه عن التقليد الأعمى، والتطبيق الأعشى، ولا يجنح في الليل، ولا يكسل في النهار، إنها قراءة ينبغي أن نتعلمها جميعا، لأننا بدون قراءة واعية، سنكون عبارو عن أوعية فارغة، يملؤها الريح مرة ويكفؤها مرة أخرى.


وينحدر علينا السؤال كصخر حطه السيل من عَلٍ: ماذا قدّمنا لأبنائنا في ميدان الفراسة؟ هل أطعمناهم من حلال؟ أم هل علمناهم المحبة كيف تكون؟ أم شرحنا لهم معنى: الدّين وأنه يقترن بالأخلاق؟ أَمْ فتحنا لهم نافذة ليروا الوطن، كم هو بحاجة إليهم؟.


وإلا فكيف يصبح لأبنائنا فراسة وهم يسمعون كلمات الشقاء، ويرون تصرفات الشقاوة؟ فأيّ فراسة سيتعلمونها من التذمّر الذي لا ينتهي، ومن النوم المديد والعمل القليل والكلام الكثير؟.


فكم نحن بحاجة لنعلمهم ونتعلم قبلهم الفراسة.
فالعرب تمتاز على غيرها بالفراسة، ولكن في صفاء الذّهن وبجلَد على الحياة، وبصبر على الَّلأواء، وبنظرة إلى أبعد من مرمى الحجر، وبذكاء متقد وذهن وقاد.


ومع القراءة للواقع، والتعامل بواقعية نجد أنفسنا فرسانا في الميادين، وذوي فراسة في فهم الآخَر، ويبقى الدرس الأخير: ركوب الأمواج.


نعم.. إنها الحياة تفتح ذراعيها وتستقبل أبناءها، ومن تأخر منهم أمهلته قليلا ليتابع مسيره، وإلا فالنجاح لا يستقبل الكسالى، والمنشآت لا تقوم على أحلام ورديّة، والنصر لا يتحقق بقول: كان أبي.


إنها الحياة.. مثلُ النهر يتحدر من رحِم الجبل ثمّ يسير بهدوء وانسياب، كأنها مرحلة الطفولة عند أحدنا، ثمّ يشتدّ عودُه ويستدّ رميُه، وما هي إلا هنيهة حتى يغرقَ النّهرُ في البحر، فيصير إما إلى قعر المحيطات في ظلمات إذا أخرج يده لم يكد يراها، أو في الأعلى حيث الأمواج يتلاطم معها وتتكسر على صخر الشواطئ، وقد يعيش في وسط البحر حيث الحيتان يأكل الكبير منها الصغير.


نعم.. إنها الحياة تتطلب منا أن نتعلم الحِرفة مثلَ الحرف، والفراسة مثل الفروسية، وأن نتعلم ركوب الأمواج حتى لا نغرق تحت الماء.. وليس منا من يتنفس تحت الماء.
ولا بدّ حينما نعلم أبناءنا أن نعطيهم دليل رحلة الحياة، فجزيرة الكنز، تتمثل: بالدِّين والوطن، والمبادئ والقيم، بعيدًا عن سذاجة الحمقى التي لا تروي من عطش، ولا تسمن ولا تغني من جوع.

 

 

>