تدور عَجلة الزمان فتنقلنا مع الفصول الأربعة، في حربٍ ضَروسٍ مع بردِ الشتاء القارس، ولهيب الصيف الحارّ، ورياح الخريف العاتية، ولا يتبقى لنا من أيام السلام سوى الربيع المنشود، بأيام الزهر والبيدر، والحصادُ للزرع، والنِّتاج للضرع، في أيامٍ تتكاثر فيها الآمال كما تتكاثر فيها مواقف ذات صلة بسعادة الإنسان، ليتهيّأ إلى مواجهة الطبيعة حيث لا مفرّ، بالحرّ والقرّ.
وأيام الربيع الإنسانيّ قلائل، لا يعلق منها بالذاكرة شيءٌ سوى تلك المواقف الإنسانية التي يسطرها نبلاء التاريخ وعقلاء العالم، وهم يحاولون قيادة الإنسان ليرتاد لنفسه أكناناً تقيه برد الشتاء وأكناناً تلطف عليه حرّ الصيف.
ويقف الإنسان حذو أخيه الإنسان، صفًّا واحدا لمواجهة الرياح العاتيات التي قد تبدد أحلامهم.. فيحصدون الزرع بإخاء ومودة مع أهازيج الوطن وتطلعات بني الإنسان.
ً”الريادة… طليعة الفرسان”
كان العرب الرّحَّلُ، إذا لزمهم الانتقال من محلّ الجدْب، يرسلون فرساناً من خيرة شباب القبيلة، يرتادون لهم مكانَ النجعة والمرعى الخصيب، وهؤلاء الفرسان هم روّاد اليوم قادة المستقبل، فيلزمهم صفات ومِيزات تجعلهم محلّ اهتمام القبيلة.
فالفتوّة والشباب والذكاء والقوة والانتماء وسرعة تلبية النداء، وسخاوة النفس، والفطنة والخبرة والمعلوماتية، ودراسة الموقع ومعرفة الطريق وحدود القبائل، ناهيك عن القدرة على الرماية، وركوب الخيل وحمل السيف، ورمي الرمح، تلكم هي صفات روّاد القبيلة.
إنّ اختيار المكان الأنسب، الذي ستنتقل إليه القبيلة، بقضّها وقضيضها ورجالها ونسائها، وذهبها وأموالها، ومواشيها وممتلكاتها، كلّها ستكون تحت إشارة الروّاد وما يتوصلون إليه من رأي سديد لا يحتمل الخطأ. فالريادة إلهام وتربية وتنمية ذهنية وفكرية وجسديّة عليها المعوّل في تصويب الواقع وتفادي الخطأ، والانبعاث نحو الاستمرارية في العطاء والنماء.
وإذا أردنا نقل الريادية إلى حياتنا المعاصرة التي تتميّز بسماتٍ طرأت عليها، فإنّ الأمة بأخلاقها ما بقيت.. نعم، ولكن.. ذلك بقاء الحضور. أما بقاء إثبات الوجود وإيجاد الذات، وأخذ المكانة المرموقة، فحاجتنا ضرورة إلى الريادة والرواد، فهم أمل أمتهم، الذين يرسلهم الانتماء والاهتمام إلى أماكن العلم والعمل، ليرتادوا لأمتهم المقاعد الأولى على سلّم التشريف والتقدم.
إِنّ تغيّر الزمان والمكان أحدث تغييرًا في مهمة الريادة، وما يتطلب من الرواد القيام به، إلا أنّ صفاتهم التي ذكرناها باقية على أصولها، والواجب على الأمة رعايتهم باقٍ على أصله.
فالبناء للأمة جيلاً بعد جيل، لا يَحرم أحدًا من شرف الإعداد والاستعداد، ولا يمنع الأذكياء من ميادين العطاء، ولا المحبين أن يتفانوا لأجل أمتهم والإنسانية، وإن تقلصت تلك اهتمامات البعض في خدمة دولتهم أو حتى مدينتهم أو القرية والقبلية، فذلك لا يمنع من تجيير الإبداع الفردي لصالح عموم الأمة.
كما أنّ الصـراع الإنسانيّ لأجل البقاء، وأحياناً لأجل التقدم، هو في الحالين أشدّ من صراع الإنسان مع فصول الشتاء والصيف والخريف، لأنّ فصول السنة تسمح برؤية ربيعٍ يملأ العيون أملاً والقلوب فألا. أما الصراع الإنسانيّ فقد يتعدى المعتدي فيحذف فصلَ الأزهار، ويمنع الازدهار، ويحرم الأمة من العيش إلا في القهر، ويغرقها بالوحل والوجل، بمستنقع قريب الذلّ بعيد عن الكرامة.
إنّ الريادة ضرورة في كلّ جيل من أجيال الأمة، لتتمكن من زراعة الأفكار، ومتابعتها لتنضج وتنتج خيراً كثيراً ، أما الزبد فيذهب جفاء، والريادة يحمِل أعباءَها العقلاء من بني الإنسانية، لأنّ الريادة هي إلى الخير أقرب، وإلى النفع مقصدها، ولدفع الضرر تقف سدًّا منيعاً ، فهلَّا أيَّدنا وعزَّزنا الرياديين من بني الإنسانية عموماً ومن أمتنا خصوصًا ، ومن دولتنا على الوجه الأخصّ.. فتلك ضرورة للبناء والتعمير والازدهار.