الحرية والحرية المطلقة

on 06 October 2021, 02:32 AM
بقلم:القصطلاني سيدي محمد إبراهيم
بقلم:القصطلاني سيدي محمد إبراهيم


جميلة هي الحرية؛ دلالةً و وقعاً و واقعاً؛ فهي رئة الحياة التي تتنفس بها.

و كل مخلوق حي تواق للحرية، لا سيما الإنسان ،
و لقد عملت الشرائع و القوانين و المنظومات التنظيمية البشرية قديماً و حديثاً على اعتبار الحرية أساساً و هدفاً جوهرياً في قوانينها و قواعدها التشريعية.


و من المعروف أن ديننا الحنيف “الإسلام ” سباق في حفظ قيمة الحرية و ضمانها و توفير مقوماتها و متطلباتها.


فالصياغ القرآني مليئ بمعاني الحرية في عقيدته و تشريعه
ضامناً بذلك حرية المعتقد و الاختيار و التفكير.
و مثله في ذلك الخطاب النبوي الذي هو مفسر و مبين لكتاب الله

يقول الله تعالى:
“لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”

و يقول عز و جل: “وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ”

و قد خطب صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يوم النحر فقال:

” إنَّ دِماءَكُم، وأمْوالَكم وأعْراضَكُم حرامٌ عَلَيْكُم كَحُرْمة يومِكُم هَذَا، في شهرِكُمْ هَذَا، في بلَدِكُم هَذَا، ألا هَلْ بلَّغْت” متفقٌ عَلَيهِ.

و هو تحصين للشخص في جسده و عرضه و ماله و تقديس لمكانة الفرد في الإسلام و تحرير له من قيود الظلم و التجريح و الإعتداء حتى يتمكن من التعبير عن قناعاته و أفكاره بأريحية تامة.

غير أن هنالك فرق كبير بين الحرية و الحرية المطلقة.

فالأولى هدف سام يتناغم مع كرامة الإنسان و تطلعاته ؛ و هي مدار لسن القوانين. أما الثانية فهي على النقيض من الأولى؛ إذ إنها تحمل في معناها و دلالتها الدكتاتورية و الأنانية و اللاإنسانية.

و إلا … فكيف يكون لشخص يريد أن يعيش في ظل مجتمع يخضع لضوابط و قيم و مرتكزات محددة؛ مطلق الحرية في تخطي مجتمعه و تجاهله و عدم إعتباره؟!

و في خضم نداءات الحرية يمتزج التعبيران و يختلط المرادان.
خصوصاً إذا كان الشخص يعيش في عالم إفتراضي حديث عهد بالضبط و التنظيم؛ و ما تزال طرق التعايش به تمر بمراحل أولية بالمقارنة مع التعايش الميداني الذي مر بآلاف السنين.

و لعل التعبير “تنتهي حريتك حين تعتدي على حرية الآخرين”
ينبهنا إلى الحدود الافتراضية البرزخية، بين بحر الحرية العذب الفرات و بحرها الملح الأجاج.

و يمكن القول بأن الحرية المطلقة ناتجة عن مبالغة في تبني الحرية؛ تماماً كما تتحول الشجاعة بالمبالغة فيها إلى تهور؛ و الكرم إلى تبذير.

إن المبالغة في إستخدام الحرية بحيث تتعدى إلى هتك أعراض الناس و كشف عوراتهم و الخوض في خصوصياتهم دون أن يكون هناك مبرر قضائي أو إصلاحي يسمح بذلك، تجعل الحرية تفقد معناها و مسارها لتتحول إلى أداة هدم للمجتمعات.

فيمكننا أن نتفهم النقد العام لعمل مسؤول في مرفق عام؛ بل نعتبر أن إنتقاد فساد مسؤولين عامين من صميم واجب النخبة تجاه وطنهم.

لكن التهجم على أي شخص في خصوصياته يبقى عملاً لا علاقة له بأي مسؤولية تجاه وطن أو شعب.

إن التحرر الفوضوي لوسائل التواصل الاجتماعي يبقى تحدياً كبيراً يواجه المجتمعات.

و لئن كان المجتمع المسلم يجد في تعاليمه الدينية ما يمنعه من الإساءة و الفوضى ؛ إلا أن عدم الأخذ على أيدي المخالفين و تركهم يخوضون في ما يخوضون فيه؛ يجعل هوة الفوضى التي تتسمى بالحرية؛ تتسع حتى يختلط الحابل بالنابل.

و لقد بالغ المجتمع المعاصر في النداء بالحريات حتى جعلها تخرق جسر التشريع و تتعالى أحيانًا على المقدسات و الثوابت. و لئن كانت تلك المبالغة ناتجة في كثير من الأحيان عن ضغط و كبح لحريات مشروعة من طرف منظومات دكتاتورية تأبى المشاركة و الحوار و تألف الأنا و القرارات الأحادية.

غير أن الحالة الواقعية لكل مجتمع، هي الموجه الرئيسي لتبني قوانين تشريعية محددة تُنظم و تُرتب بالشكل الذي يراه المشرع مناسباً لخدمة الوطن و المواطن.

فالتشريع في صفته المرنة يضع لكل مقام مقال و لكل حالة حال؛ تماماً كما يفعل المفتي بالفتوى؛ دون أن يعتبر ذلك خارجاً عن صياغ الهدف العام الذي هو أمن و سلام و حفظ حقوق و حريات الشعوب.

و لعل من موجز القول أن نقول بأن التشريعات إنما جاءت لضمان “الحرية” و كبح “الحرية المطلقة” التي هي هوى مطاع.

و لايمكن للتشريع الذي يتبع الحق أن يتبع الهوى، قال الله تعالى ” وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ”، بل إن الله جعل جنته تُنال بمخالفة الهوى، قال تعالى” وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى”

جعلنا الله و إياكم ممن نهى النفس عن الهوى و كبح جماحها و قيدها بقيود الشرع ابتغاء مرضاة الله.