تعتبر الحضارة المعاصرة بكل ما تحويه من العلوم والمعارف والتقنية نتيجة حتمية لتراكم معرفي وعلمي واجتماعي متواصل لجميع الأمم والشعوب على اختلاف ثقافاتها وأيدلوجيتها منذ بدء الخليقة وإلى اليوم مما يمكن أن يطلق عليه التفاعل الحضاري بين الأمم ، وإذا أمعنا النظر في الحضارة العربية الإسلامية فإننا نجدها قد قامت على أساس التفاعل الحضاري ، وهي بذلك تعتمد ثقافة الحوار والتواصل حيث أخذت عن الحضارات السابقة واقتبست من ثقافة الأمم والشعوب التي احتكت بها وصهرت جميع ذلك في بوتقة الثقافة العربية الإسلامية فكانت حضارة إنسانية لها أثر كبير في نقل روح المدنية إلى جميع الشعوب التي تفاعلت معها ، وهو الأمر الذي يعترف به معظم الكتاب والمفكرين الأوربيين الذين تخلصوا من التعصب المقيت وكتبوا بإنصاف عن تاريخها ، حيث يرون أن الحضارة الإسلامية احتفظت بمركز الصدارة منذ أوائل العصور الوسطى ليس في الشرق فحسب بل في الغرب أيضا ، إذ نمت الحضارة الغربية في ظل الحضارة الإسلامية التي كانت أكثر رقيا منها وقتئذ.
إن التفاعل الحضاري والتواصل الثقافي الذي يوصل إلى الحوار العلمي الهادئ يجب ألا يكون نوعاً من الترف الفكري الذي ليس له انعكاس على الواقع المعاصر ولا تصل آثاره إلى دوائر صنع القرار في الأمة ، كما أن الحـوار بين الأمم ذات الحضارات والثقافات المختلفة يجب ألا ينطلق من الإحساس بالتفوق العنصري أو الاستعلاء الحضاري أو روح الهيمنة الثقافية ، لأن الحوار الذي يكون قائماً على أساس الشعور بالتفوق والاستعلاء لا يؤدي الأهداف التي من أجلها تنشأ علاقات التواصل الثقافي بين الأمم ، بل إنه ربما يعود إلى الهدف بما يناقضه ومن هنا ينبغي أن يكون الهدف من الحوار هو إقامة قيم التسامح وإذكاء روح التعارف الثقافي والعلمي ، ذلك التعارف بالمعنى القرآني السامي الذي هو الأصل في تعامل الشعوب والأمم بعضها مع البعض الآخر استناداً إلى قوله تعالى “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا”
إن التفاعل الحضاري الذي يراد منه أن تتخلى الأمة عن هويتها وخصائصها الذاتية وتصوراتها الفكرية لا يمكن أن يكون في حال من الأحوال تفاعلاً إيجابياً وناجحاً ، لأنه بذلك يكون نوعاً من أنواع التبعية الثقافية والفكرية ، كمأ أنه يؤدي إلى أن تصبح الأمة متلقية لفكر جديد وتصور مستورد وعندئذ ستكون مغزوة في فكرها ومهددة في وجـودها وكيانها ، وسـتكون ضحية عدوان أيدلوجي وفكري وثقافي وهو أشـد أنواع العدوان وأعلى مرحلة من مراحل محو الثـقافة ولن ترضى الأمة الإسـلامية أن يكـون التفاعـل الحضاري غزوا لثـقافتها أو محوا لحضارتها وذوباناً في ثقافات الأمم واندماجا في حضارات الشعوب بدعوى التواصل الثقافي أو التحاور الحضاري ،فالعالم العربي والإسلامي الذي يمد جسور التلاقي والتعاون والتفاعل مع الأديان السماوية والثقافات والحضارات الأخرى لا يقبل أن يكون ضحية تغريب العالم من خلال تفاعل حضاري يفقد معنى العطاء المتوازن والمنفعة المتبادلة .
وإذا أردنا أن نقف على مستوى العلاقة بين المسلمين والغرب وحدود الحوار بينهما باعتبارهم يمثلون المعادلة الصعبة في عالم اليوم بعد سقوط المعسكر الشيوعي وانفراد الغرب وبالذات أمريكا في السيطرة على العالم حضاريا وسياسيا واقتصاديا فإننا يمكننا القول: إن المسلمين هم الكتلة البشرية التي تدين بالإسلام وتنتسب إلى عقيدته وحضارته وثقافته ، ويوحد بينها الانتماء إلى هذا الدين الذي جعل منها أمة واحدة .
أما الغرب: فهو أقاليم جغرافية تسكنها شعوب متفرقة العقائد مختلفة المشارب مثلت منظومة حضارية من القيم والأفكار والمذاهب والسياسات . والملاحظ أن الغرب شعوب تبحث عن مصالحها وتضعها في مقدمة أولوياتها وتتعامل مع العالم من منطلق الحرص على تلك المصالح واسـتثمارها وتنميتها والحفاظ عليها بشتى الوسائل والسبل حتى ولو كان في ذلك هدر لحقوق الآخرين أو انتقاص من مكانتهم .
إن الحوار الحضاري بين الأمم والشـعوب المتعددة لا يمكن أن يتحقق إلا مع أطراف تجمعها الرغبة المشتركة في تحقيق أهداف معلومة متفق عليها ،فإذا افتقر الحـوار إلى هذه الرغبة فسيكون ضرباً من العبث أو إملاء للرأي وفرضاً له من طرف على طرف آخر مما يجعله فاقداً للشرعية العلمية مفرغاً من دلالته الفكرية مكرساً معنى الهيمنة والغطرسة وفرض الأمر الواقع .
ومن هنا فإن حـوار المسلمين مع الغرب ينبغي أن ينطلق من هذه الأسـس والمعاني الواضحة لتحقيق الأهداف المرجوة منه ، ولكن يبدو أن الغرب الذي ناصب أمتنا الإسلامية العداء لفترات طويلة فاحتل أراضينا ، واستنزف خـيراتنا وأسـاء إلى مصالحنا ، وخضنا معه معارك سـياسية واقتصادية حيناً ، ومعارك عسكرية حيناً آخر ، فإننا حين نتعامل معه لا نملك أنفسنا من استحضار تلك المشاهد المؤثرة في أعماق نفوسنا ، ولكن الإرادة القوية التي تحدونا إلى التواصل والتعاون مع الشعوب الأخرى هي التي تجعل الأمة مقتنعة بالحوار مع الآخر للدخول في مرحلة جديدة من التفاهم والتعايش والتفاعل الحضاري ، وهذا في الحقيقة يؤكد انتصار المسلمين على مخلفات الماضي بهدي من ديننا الذي يدعو إلى التسامح حرصاً من الأمة على دعم الحوار الحضاري ، وتعزيزاً لدوره في إثراء العلاقات الدولية وإنعاش الإتصال بين شعوب العالم وأممه ،ولكن هل انتصر الغرب على مخلفاته التاريخية ؟ وهل تغلب على عقده المتراكمة ؟
إن المسلمين اليوم يؤكدون على تجاوز مخلفات الماضي وعقده بروح من الصفاء والسماحة ، وبعقلية مرنة تضع المصالح العليا للأمة فوق كل اعتبار ، لأنها ترى أن الحوار مع الآخر ( الغرب ) أصبح اليوم ضرورة ترقى إلى درجة ومستوى فرض الكفاية ، ولكن هذا الحوار والتواصل له حدود وضوابط لابد من الوقوف عندها وعدم تجاوزها ، وهي أن يكون الحوار متكافئاً ، تتوفر فيه شروط المساواة والإرادة المشتركة بحيث تتعدد مستوياته ليكون حوارا شاملاً يدور مع مختلف الشرائح والفئات سواء على المستوى الحكومي أو على مستوى المؤسسات الأهلية والاجتماعية التي لها علاقة بالقضايا المركزية ، أن يهدف الحوار إلى تحقيق المصالح المشتركة للطرفين التي لها علاقة بالتقدم العلمي في كافة مجالات الحياة الفكرية والثقافية والاقتصادية ،أن يكون الحوار متحضرا ومترفعاً عن الموضوعات التي تتعلق بالخصوصية العقائدية والأخلاقية للأمم والشعوب التي من شأنها إذا أثيرت أن تؤدي إلى إيقاف الحوار أو عدم فاعليته،أن يكون الحوار معداً وفق برامج مسبقة يكون الغرض منها التواصل والتفاهم لتحقيق التفاعل الحضاري ، بعيدا عن فكرة التصارع والتنازع المقيت .
إن المتابع لجولات الحوار الحضاري يجد أنه قد عقدت خلال العقود الأخيرة ما يزيد على ثلاثين جولة من حوار المسلمين مع الغرب اتخذت شكل المؤتمرات والندوات والحلقات العلمية ، ولكن القضايا والموضوعات التي تطرح في تلك اللقاءات كان الجانب الغربي هو الذي يختارها ويعد برامجها مما يشير إلى حالة عدم التكافؤ في فرص الطرح والمعالجة ، الأمر الذي يدعو إلى مراجعة نقدية لجميع الموضوعات والصيغ التي تطرح في جولات الحوار بما يضمن تحقيق التكافؤ بين طرفي الحوار وصولاً إلى نتائج ومعطيات تلبي الأهداف المشتركة للطرفين وتخدم مصالحهما ، لتحقيق التفاعل الحضاري المبني على أساس احترام الآخر وإتاحة الفرصة له لتقديم معطياته وثقافته وعدم المساس بخصوصيته العقائدية والأخلاقية وإلا فإن الأمر ينقلب من التفاعل الإيجابي إلى التناحر والتصارع السلبي المقيت .
إن ما يجري على الساحة العالمية اليوم من رعاية واهتمام بحقوق الشعوب في دول الشمال العالمي ” الغرب ” على حساب حقوق الشعوب الأخرى في دول الجنوب يشير إلى حقيقة مُرة وهي أن العالم الذي يتشدق بالحضارة والمدنية والدفاع عن حقوق الإنسان والمحافظة على خصوصية الشعوب أبعد ما يكون عن هذه المفاهيم السامية ، فهو يكيل بمكيالين في كافة مناطق الصراع العالمي ابتداءً من فلسطين ومروراً بكشمير وأفغانستان وانتهاءً بدول المنطقة مما يعني أن التفاعل الحضاري بين الأمم إنما يراد منه فقط خدمة الحضارة الغربية المتمثلة في دول الشمال والغرب على حساب الحضارة الشرقية ودول الجنوب والشرق .