يَقِفُ الإنسانُ مُنذَهِلا أمامَ المشاهد المروّعة، التي تنزل كصاعقة من سماء الإعلام، بأخبار تحوّل الغيثَ إلى ركامٍ يتساقط في ظلامٍ إذا أخرج أحدُنا يده لا يكاد يراها، ومن شدّة هول المطلع أنه ينتظر بزوغ شمس الحرية، فتبرز خيبة الأمل في نموّ ذرّة الإنسانية في قلوب الذين يصنعون العدوانية لتكون قِبلتهم التي إليها يصِلُون ويصلّون.
وإن كنا فيما مضى نلتمس عذرًا لمن ساءت معاملاتهم للناس، أو نزقت أخلاقهم فتسببت بخلافات أنشبت أظفارها في جسد البشرية الآمنة، ذلك أنهم كانوا يعيشون في دنيا فسيحة مليئة بالغابات فيشاهدون حيوانات مفترسة بين الحين والآخر، وعاش الناس متباعدون فيما بينهم، فلا يكادون يعرفون لغات بعضهم البعض. فكان التوجّس حليفَهم، والخوفُ من الآخر شَعارَهم، والرجفةُ من الغير دِثارَهم. فمن أين نجد لهم العذر في حضارةٍ تتطلع للوصول إلى المريخ.
فبعد أن جاء الإسلام دينٌ من ربّ السماء، يأمر بكرامة الإنسان على الأرض. وبالحفاظ على الضرورات الخمس، وواجب الحفاظ على ما نحفظ به تلك الضـرورات، وهي: “الدين، الأرواح، الممتلكات، النسل والعقل”. فنحّصنها من القمع العنصري والاضطهاد العرقيّ، فضلا عن التعدي الفرديّ. من يومها قامت الحجة البالغة على بني البشر باحترام البشر. إلا أنّ التكالب على أمةٍ تدعو لكرامة الإنسان والرحمة، مستمرّ ما سنحت للحاقدين فرصة.
والإسلام ينأى بأتباعه عن التفكير بلغة الغاب، ولكن ما قول العالم وهو يشاهد إبادة للمسلمين؟ وأيُّ أَسفٍ يوازي مشاهد الأسى، وتمزيق أشلاء الوصال بين حضارة القرية الواحدة، باضطهاد عرقيّ في كثير من البلدان؟.
فنحن أمام تدمير للحضارات، وتشريد للشعوب بقمعها وإذلالها. والعجيب أننا بين الفينة والأخرى ننصدم بشخصيات تُطلّ علينا من قمقم أسود، تنفث سموم حقدها على الإنسانية، بلا حقّ ولا مستحقّ، وهم وصمة عار على عصر التواصل والتقارب بين الأمم.
ومؤخرا تعالت أصوات العزّل من مسلمي الهند ممن قهرهم هنود في الهند. ومع علمي الأكيد أنّ الباعث على المشاهد المرعبة ليس العقل الجمعيّ للمجتمع، وليس ثمّة شعب يقتل ويشـرد أبناءه دون مُجيّشٍ للجيش، ومحرضٌ للعدوانية، ومحفز للنعرات وباعث للعصبيات، ووجود أجندات خارجية وراء اضطهاد المسلمين هناك مما لا يخفى.
ولا نرى عذرا للصامتين من أصحاب القرار في البلاد الهندية، فالقتل جريمة لا تغتفر فكيف إذا كانت بما أسمّيه: “الاضطهاد العرقيّ” وليس كما يسمونه: التطهير العرقيّ، فأيّ طهر في التقتيل والتشريد للآمنين من أهل الوطن والتراب والهواء.
وَبَعدُ:
فإنّ كيل الاتهام للمسلمين، واستخراج مسوّغ قانونيّ ومجتمعيّ لاضطهادهم وتشريدهم وتقتيلهم وسجنهم والتضييق عليهم، وسلبهم الحريات والممتلكات والاعتداء على الحقوق والأعراض، وهدم البيوت الآمنة، وتدمير دور العبادى أي: المساجد على رؤوس من فيها، وفطع الأعناق والأرزاق والأسواق والطرقات، والتشويه بسمعة الأبرياء، وتعذيب الأطفال والنساء والعواجيز والعزّل، وملء الفوضى الإعلامية بصور يندى لها الجبين، فضلا عن استفزاز مشاعر المسلمين وشرفاء العالم، وعدم احترام للعِشرة والعشيرة، ولا للجيرة ولا للصداقة إن بقي منها بقيّة.
أقول: كلّ ذلك وغيره، ما هو الدافع وراءه؟. بالنسبة لي لا أعرف إلا شيئا واحدا، هو: اضطهاد الأبرياء. ولست أعرف أنّ الزمان ثابتٌ، وعلى الباغي تدور الدوائر.
نعم.. ليس المسلمون الهنود هم أول المضطهدين في العالم، وليسوا هم أول المسكوت عن اضهادهم. فقد ألِفنا من أقوياء العالم أنهم يستخدمون نظارات ذات عدسات مختلفة ومتباينة جدًّا، فما بين رؤية جزء من الذرّة إلى عدم رؤية جبال من الأشلاء، وهنا تزداد مصيبةُ المضهدين حينما يشتكون لمن لا يَسمعون وليس في آذانهم صممٌ، فمن يهضم الحقوق، ويملأ بطنه من لحوم الأبرياء لا يقنع.
ويذكرني الاضطهاد، بمواقف تاريخية سطرها المنادون بحقوق الإنسان، فمنادات الشعوب الحرّة شيء وتطبيقات المتنفذين شيء آخر.
ومن تلك المواقف، ما قاله: “ول ووليام” مُؤَلِّفَا كتاب: “قصة الحضارة”: عن فردريك 1756 – 1786م: (بدا أقرب إلى الأشباح منه إلى الغيلان، يوم عاد حزينًا منتصرًا من حرب السنين السبع ودخل برلين (30 مارس 1763) بين تصفيق الجماهير المتملقة. كتب إلى دارجنس يقول “إني أن أعود إلى مدينة لن أعرف فيها غير الأسوار، ولن أجد أحداً من معارفي، حين تنتظرني مهمة ضخمة، وحيث أخلف بعد زمن غير طويل عظامي في مثوى لا تكدر هدوءه الحرب ولا الكوارث ولا سفالة الإنسان”).
فبعد حروب طاحنة يأتي يتذكر هدوء سيصيب عظامه البالية بعد موته متندما على سلسلة الاضطهاد التي لن تتوقف ما دمنا نعتصر الحقد الأسود على بعضنا البعض.
ولكنْ.. للعقلاء دور لا ينبغي الاستخفاف به، ولا يجوز التأخر عن أدائه، فأينَ أنتم يا عقلاء العالم عن كبح جماح الحاقدين على الإنسانية؟. وأين أنتم من إحقاق الحقّ وحقن دماء الأبرياء.. في بلادكم على الأقلّ؟.
فهل سيجيب العقلاء قبل أن تنهدم الحضارة التي بناها المخلصون للإنسانية؟.