من خلال التعاريف المتعددة للإعلام والتي تبين أنه المرآة العاكسة لتطلعات المجتمعات ، والتعبير الموضوعي لعقلية وروح وميول الجماهير، نجد أن المسؤولية العلمية والأخلاقية والمهنية ، تحتم أن يكون هناك خطاب اعلامي رصين من كل النواحي ، وقائم بالاتصال أمين وملم بكل مايتعلق بصنعته الاعلامية ، ملتزم بمبادىء وقيم الرسالة المسندة اليه ، سواء كان القائم بالاتصال مالكا للوسيلة او مرسلا مباشرا .
والثقافة هي ” توظيف المعرفة الفردية أو المجتمعية أو الكونية في السياق التطوري الإنساني العام “(1) , ولها مفاهيم مختلفة , وعلى النقيض لو سلطنا الضوء على التفاهة فان التأريخ سيعود بنا الى ” العشرينيات والثلاثينيات وحتى بداية الستينيات من القرن الماضي كان مفهوم التفاهة أو تعريفها هو «فشل فى تأويل (تفسير) ما هو (رصين) إما لضعف عند التافه فى قدرته على فهم ما هو رصين أو علمي , أو لعدم رغبته بالعودة للجذور (بطريقة أكاديمية أو علمية)، أما التفاهة المعاصرة فالقصد منها تحويل الأمور الجادة إلى حالة من التفاهة والسطحية ليس إلا”(2).
وفي عالم اليوم حيث تتصارع المصالح مع المبادىء ، وتتداخل السياسة مع المفاهيم الأخرى السائدة ، وتسود الانتهازية والضبابية وعدم الشعور بالمسؤولية ، والتربح غير المشروع ، مع ضعف في ثقافة ووعي المتلقي ، فقد رأينا ظهور التفاهة في المضمون والعرض والمخاطبة عبر وسائل الاعلام المختلفة لعوامل متباينة تنحصر بالدرجة الأولى بشخصية القائم بالاتصال بما تتسم به من ثقافة وأمانة والتزام ووعي ومهنية وحيادية .
لقد بات صناعة التفاهة وثقافة الاستهلاك في الاعلام اليوم صناعة رائجة بدافع المال والظهور والمداهنة والرياء ، وخاصة في عالم الفن والسياسة و لدى عدد غير قليل من أرباب العمل وصناع القرار ، حيث نجد أن البعض يدفع بشخصيات من ورق غير مؤهلة لعالم المشاهير والنجومية حتى بات الاعلام بنظر البعض منبر من لامنبر له . وهذا يجعلنا نستحضر عبارة توفيق الحكيم: ” لقد انتقلنا من عصر القلم إلى عصر القدم”!!.
ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر ” نرى أن اللافت لانتباه المتتبع أن أغلب البرامج التي تعرضها قنواتنا الفضائية العربية في هذه المرحلة الزمنية تحديداً , وخاصة في شهر رمضان المبارك وللأسف الشديد , قد انحدرت قيميّاًوسلوكياً بدرجة لافتة في المحتوى المطروح للمشاهدة، حيث غلب على تلك البرامج والمسلسلات التسطيح الفكري والثقافي والانحدار بالقيم والسلوكات، فأغلب تلك البرامج والمسلسلات لا يمكن وصفه إلا بالتفاهة والسماجة ,وهذا بالطبع يعد تغذية سلبية للسلوك المجتمعي، ثم يبقى السؤال الأهم: من يقف خلف ذلك الانحدار؟ وأين الجهات الرقابية مما يجري ؟”(3).
التحول الرقمي والرقمنة الاعلامية بدورهما ساعدا كثيرا في تفعيل واستفحال هذه الظاهرة ، وخاصة من خلال السوشيال ميديا ,والجوالات الحديثة لدى الشباب بما تتصف به من تقنيات عالية , وماتحتويه من برامج متقدمة ومتنوعة، من الذين باتوا قائمين بالاتصال بشكل منفلت في عالم اتصالي مفتوح تضعف فيه الرقابة وتنعدم المسؤولية بسبب ذلك .
واعلام التفاهة وجد مكانه في كل الدول والمجتمعات . ” ففي أوروبا وأمريكا وكندا واستراليا انتشرت مؤخرا لوحات تحذيرية مكتوب فيها (stop making stupid people famous) ، ومعناها توقفوا عن جعل الناس التافهين مشهورين ، موجهين هذا التحذير للناس كافة ولمؤسسات المجتمع الاعلامية والإجتماعية “(4).
وازاء كل ذلك تبرز لنا الضرورة الكبرى للحد من هذا التدهور الأخلاقي والتراجع الفكري والابتذال المهني في عالم خطير ومهم جدا هو الاعلام ، الذي عبر عنه الزعيم والمفكر الأمريكي المسلم مالكوم إكس (19 مايو 1925 – 21 فبراير 1965) بالقول : إن “وسائل الإعلام هي الكيان الأقوى على وجه الأرض, لديها القدرة على جعل الأبرياء مذنبين وجعل المذنبين أبرياء ,وهذه القوة لأنها تتحكم في عقول الجماهير”.
وهناك مهام عديدة يمكن القيام بها للحد – قدر الامكان – من هذا الانحدار ,بعضها يتعلق بالحكومات , ومنها مايتحدد بمسؤولية الأسر و الأفراد أنفسهم ، كتحسين الأوضاع الاقتصادية والأمنية ، والالتزام بالثوابت وفي مقدمتها الدين ، وزيادة الوعي الجماهيري ، ومراقبة وسائل الاعلام ، وتشديد قوانين النشر والمطبوعات ، وترصين الخطاب الاعلامي ، وتدريس الاعلام في المدارس والثانويات ، وترسيخ الايمان بالقيم والمبادىء ، وتعزيز الحصانة الفكرية ضد البروباغاندا والعولمة المؤدلجة وخاصة لدى الشباب ، وتطوير المناهج التدريسية ، ومكافحة أمية المتعلمين ، وقيام الأسر بدورها الأساسي في متابعة وملازمة أفرادها بطرق تربوية وودية سليمة .
المراجع
1- محمد صالح الهلال ، حول ثقافة التفاهة كما طرحتها محاضرة الصيني ، الجزيرة ، 21 يناير 2020
2- اكرام لمعي ، الشروق ، زمن التفاهة ، 13 ديسمبر 2019
3- د. محمد سالم الغامدي ، اعلام التفاهة والسماجة ، المدينة ، 13 ابريل 2022
4- سليمان الطعاني ، ثقافة التفاهة ، عمون ، 21-12-2019