الحمد لله والصلاة والسلام على خير المرسلين محمد النبي الأمين عليه وعلى آله وصحبة أفصل الصلاة وأزكى التسليم، وبعد:
هنا بداية لسلسلة من المقالات التي تتناول موضوع الأمن المجتمعي، باعتباره منهجاً شرعياً، دعت إليه نصوص الشريعة الإسلامية في القرآن والسنة، كما أنَّه مطلب حياتي، ينشده كل فرد يعيش في هذه الحياة، ولا تستقيم حياة المجتمع بكل ما فيه إلا في ظل وجود الأمن، وسنحاول في هذه السلسلة بيان أهمية الأمن، وحقيقته المقصودة في الشرع، وضرورته في الحياة، ومن بينها الوقوف على بعض المقاصد الشرعية من أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بالعبادات والمعاملات، وتبدأ هذه السلسلة بحقيقة الأمن المجتمعي وأهميته.
الأمن حالة من الإستقرار الداخلي والخارجي يحتاجها الإنسان في حياته ليتمكن من الحياة بسعادة وسرور، لا ترتبط بزمان أو مكان محدد، وإنما تصاحبه أينما كان وفي كل زمان، وغياب هذه الحالة أو انخفاضها عن المستوى الأعلى يؤدي إلى وجود قلق وخوف؛ يساهم في تنغيص حياة الإنسان وشعوره بعدم الاستقرار، والأمن -أيضا- مقوم من مقومات الحياة، به يطمئن الناس على دينهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ويتجه تفكيرهم إلى ما يرفع شأن مجتمعهم وينهض بأمتهم، فمقصود الأمن سلامة النفس والمال والعرض والدين والعقل، وهي الضروريات التي لا بد منه لقيام مصالح الدين والدنيا.
ويراد بالأمن في اللغة الأمانة التي هي ضد الخيانة، وسكون القلب، فهو الاطمئنان والسكينة وعدم الخوف، وقيل هو: عدم توقع مكروه في الزمن الآتي، وأصله طمأنينة النفس وزوال الخوف، أما اصطلاحا فيراد به الشعور بالإطمئنان الذي لا يصاحبه خوف ولا وجل، بسبب عدم وجود المهددات الخارجية أو الداخلية، أونتيجة لوجود الأدوات والوسائل التي تساهم في طرد الخوف وتحقيق الإستقرار والطمأنينة.
والأمن المجتمعي هو أحد أجزاء الأمن، بل هو روح وجود الأمن، فهو مركب من مصطلحي الأمن والمجتمع، ليشير إلى أهمية وفاعلية كل منها في الآخر، فالأمن لا يمكن تصوره بدون مجتمع يشعر به، كما أنَّ المجتمع لا يستقر ويكون فاعلاً، ومترابطا إلا في ظل الأمن الذي يسوده، فالعلاقة بين الأمن والمجتمع قائمة على التكامل والوجود، فالأمن مطلب من مطالب المجتمع وأهله، ووجوده ضرورة من ضروريات حياتهم، لا تستقيم لهم الحياة إلا في ظله، وليس للأمن وجود إنْ لم يكن ثمة مجتمع، ولا يقال أمن إلا في المجتمع وما يتصل به.
ويمكن تعريف الأمن المجتمعي بأنَّه: انتشار الاستقرار والطمأنينة والأمان في المجتمع، وشعور الناس بها في جميع الأمور المتعلقة بهم، وسد جميع الأسباب التي تؤدي إلى الخلل في أحد جوانب الأمن المرتبطة بالمجتمع وأفراده، وكل ما ينتمي إليه من أشياء كالحيوان والجماد، والبيئة بما تحتويه من عناصر مختلفة.
ومن أبرز ما يساهم في تحقيق الأمن المجتمعي الإيمان بالله تعالى، فالأمن والإيمان مترابطان؛ يُسهم كل منهما في تحقيق الآخر، تربطهما علاقة طردية، فالإيمان عامل من عوامل تحقيق الأمن والاستقرار، سواء الأمن الداخلي في حياة الإنسان، أو الأمن الخارجي في محيطه الذي يعيش فيه، ودليل أثر الإيمان في أمن الإنسان الداخلي قوله تعالى: ” الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ” (الرعد: ٢٨)، ولا شك أنَّ إطمئنان القلب أحد العوامل التي تحقق الاستقرار النفسي للإنسان، والذي يظهر في سلوكه وتصرفاته، أمَّا دليل أثر الإيمان في المجتمع قوله تعالى: “وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ”(الأعراف: ٩٦)، فانفتاح البركات في المجتمع إشارة إلى انتشار الخير وعمومه، ومن جملته الأمن والاستقرار والطمأنينة في كل جوانبه، كما أخبر الله تعالى أن الإيمان أحد الأمور التي توجب الأمن للإنسان ومجتمعه، قال الله تعالى: ” الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ(الأنعام: ٨٢)، فالإيمان وسيلة من وسائل تحقيق الأمن.
وفي المقابل نجد أنَّ الأمن أحد أهم العوامل التي تساهم في تحقيق الإيمان وزيادته في نفس الإنسان، وكذلك في انتشاره في ربوع المجتمعات، فكلما شعر الإنسان بالاستقرار والأمن والإطمئنان وجب عليه الشكر لله تعالى، إذ لا شيء ينغص عليه الحياة، والشكر ليس باللسان فحسب، وإنما من خلال زيادة الإيمان والعبادة لله تعالى بأفضل مما كان عليه، ويمكن استفادة هذا المعنى من امتنانه سبحانه وتعالى على أهل مكة بالأمن والاستقرار، وتوفير متطلباته والتي منها توفير الطعام، والأمن من وقوع الخوف سواء في وقت اقامتهم في مجتمعهم، أو في أثناء سفرهم في رحلات الشتاء والصيف، فقال تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3)الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)(قريش: ٣ – ٤)، فمقتضى حصول النعم الشكر عليها، ونعمة الأمن في المجتمع من أعظم النعم بعد الإسلام، وأعظم أنواع الشكر لله تعالى زيادة الإيمان بالله تعالى، وطاعته، واتباع أمره، واجتناب نهيه.
وتبرز أهمية الأمن المجتمعي من خلال العلاقة المتجذرة بين الأمن والمجتمع، حيث أنًّ الأمن مطلوب المجتمع؛ نظرا لكونه عاملا مهما في استقرار الحياة الإنسانية بشكل عام، واستقرار نظام المجتمع وصلاحه، وصلاح واستقرار كل مكوناته، فإذا تحقق الأمن استقرت الحياة في المجتمع، واستشعر جميع من فيه حلاوة السعادة، وطيب وهناء العيش، وهذا هو المطلب الحياتي للأمن في المجتمع، وقد جاء المنهج الإلهي مؤكد على هذا المعنى، بل جاءت التشريعات والأحكام الشرعية لتحقيق الأمن في المجتمعات (سيتم الحديث عن بعضها في المقالات القادمة)، ولعل من أهم الأمور التي تحقق الأمن في المجتمع، الإيمان بالله تعالى وحده.
والأمن المجتمعي متعلق بأبناء المجتمع بمختلف شرائحهم، كما أنَّه متعلق بجميع النواحي المرتبطة بالمجتمع، الأمنية والسياسية والاجتماعية والتربوية والدينية والثقافية والصحية والاقتصادية، فهو بذلك ركيزة أساسية لكي يشعر أفراد المجتمع بالأمن والأمان والاطمئنان، والتمتع بالحياة الكريمة المستقرة، وبناء أفراد صالحين وناجحين وسط أسر نموذجية صالحة، فلا يمكن الحصول على فكر صحيح، وثقافة وتربية سليمة في ظل غياب الأمن المجتمعي، مما يجعل منه مسؤولية اجتماعية عظيمة، كما يجعل له أهمية عالية في بناء المجتمع، وحياة أفراده، وترابط مكوناته.
ويمكن تلخليص أهمية الأمن المجتمعي في الأمور الآتية:
ضرورة شرعية دينية :تتأكد لنا هذه الأهمية من خلال ما أسلفناه سابقا في حديثنا عن العلاقة بين الأمن والإيمان، واعتبارنا الأمن أحد أهم المقومات التي تساهم في تحقيق الإيمان، وتعين على القيام بمتطلبات العبادة، حيث أن العبادات فرائض ربانية لا يحل لمسلم يؤمن الله تعالى أن يتركها، أو يتأخر عن أدئها، وهذه العبادات تحتاج إلى جو من الأمن والاستقرار للقيام بها، فالصلاة لا يمكن أدائها على الوجه المطلوب عند الاطمنان، والذي يعتبره العلماء ركن من أركانها التي لا تقبل بدونه، والحج لا يمكن أدائها في ظل الخوف وعدم الأمن؛ باعتباره غير قادر على تحمل السفر لأداء الحج، وهكذا بقية العبادات، ومن القواعد التي أقرها علماء الشريعة الإسلامية أنَّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والأمور تأخذ حكم مقاصدها، وغيرها من القواعد التي تؤكد الضرورة الشرعية الدينية لتوفير الأمن بكل أنواعه، والأمن المجتمعي هو الأساس فيها.
ضرورة مجتمعية: الأمن المجتمعي في حقيقته التي تؤكد أهميته في حياة المجتمعات والأوطان كونه ضرورة وطنية لتنمية الإحساس بالانتماء والولاء الوطني، وضرورة اجتماعية لتنمية المعارف والقدرات والمهارات والقيم والاتجاهات والمشاركة في خدمة المجتمع ومعرفة الحقوق والواجبات، كما يساعد على تماسك المجتمع وتحديد أهدافه ومثله العليا ومبادئه، ويساعد على وقاية المجتمع من الانحرافات الاجتماعية، بالإضافة إلى وقاية المجتمع من الانحرافات الاجتماعية ونبذ العنف والصراع، وزيادة فهم أحداث المجتمع، وتقبل فكرة التعددية الثقافية، وينمي فكر الحوار مع الآخر، كما يؤدي إلى إيجاد بيئة تربوية، تساهم في زيادة فهم الطلاب واستيعابهم، والتعامل الإيجابي بينهم وبين الآخرين في المدرسة وخارجها، ويساهم في بناء نسيج إجتماعي متجانس ومتماسك داخل المجتمع.
عامل لحفظ الضروريات الخمس: الضروريات الخمس المهمة في حياة الإنسان وهي: النفس، والعقل، والعرض، والمال، والنسل، وعليها مدار التشريعات الإسلامية، ومقاصدها التشريعية، واعتبرها الإمام الشاطبي -رحمه الله- أسس العمران، التي لا يمكن تصور عمران المجتمع وصلاح واستقامة أمور أفرادها إلا من خلال حفظها، ولا يمكن تصور حفظها إلا في ظل وجود الأمن، وخاصة الأمن المجتمعي الي هو أحد مقومات صلاح الحياة، واستقامة شؤون العباد.
عامل من عوامل التنمية: الأمن والتنمية يسيران في مسار واحد، لا يمكن لأحدهما أن يوجد في حال غياب الآخر، فالأمن ضروري لحصول التنمية والتطور في جميع المجالات، وغيابه يؤدي إلى عدم التمكن من تفعيل خطط التنمية، أما التنمية فوجودها ضروري لتوفير الأمن؛ لأن غيابها يسبب الفقر والجوع، الناتج عن البطالة في أوساط المجتمع، مما يدفعهم إلى الجرائم بأنواعها لسد الحاجة، وتوفير المتطلبات الأساسية للحياة، ويمكن القول بأنَّ الأمن المجتمعي هو حجر الزاوية الذي يرتكز عليه التقدم وتعتمده التنمية والتطور في سبيل تحقيق أهداف المجتمع الجماعية المشتركة، إذ أنَّ المجتمعات لا يمكن حصول التقدم والتطور والتنمية الشاملة فيها إلا في ظل الأمن بشكل عام، والأمن المجتمعي بصفة خاصة، بحيث يتعاون الجميع على تحقيق التنمية في جميع المجالات، والمحافظة على مكتسباتها.
عامل للاستقرار والتوازن: مع التطور البشريّ، والتّنامي التّدريجي لمفهوم الأمن، وما وصل إليه من خلال الإرهاصات والمدارس الفكرية في مجال الجريمة، واتّساع أبعاده، وتنوّع مؤسسات تحقيقه، أصبحت الحاجة مُلحَّةً إلى وجود أمن فكريّ يحقق للفرد الاستقرار والتوازن النفسيّ ضد أخطار الأمراض وسوء التغذية، وشبح البطالة، وتكافؤ فرص العمل، وتنام ت الحاجة إلى أمن جنائيّ يأمن فيه الإنسان ضد أيّ اعتداء على حياته وحياة أفراد أسرته، ويحفظ أمواله وممتلكاته. وازدادت الحاجة إلى أمن بيئي يستطيع أ ن يحميه من أخطار التلوث وآثار الحروب والصراعات، وإلى أمن ثقافيّ وإعلاميّ يحمي معتقداته وموروثاته الثقافية والفكرية من التأثيرات والأفكار المنحرفة والهدّامة، وإلى أمن اقتصاديّ يحمي مصادر دخله وأمواله من جرائم التزييف والتزوير والنصب والاحتيال.
ركيزة لتحقيق الإزدهار الاقتصادي: الاقتصاد في المجتمع أحد العوامل المؤثرة في بناء المجتمع، وعنصر فاعل في تحقيق الاستقرار والتقدم المجتمعي، ولا يمكن أن ينمو الاقتصاد، ويأخذ دور الفاعل في نمو المجتمع وتقدم إلا في ظل وجود الأمن المجتمعي، الذي يحفظ الأموال، ويحفظ المتعاملين بها، ويحفظ الحقوق والواجبات، فالأمن هنا هو العنصر المهم في ازدهار التجارة، وحصول النماء الاقتصادي، وإذا شعر أرباب الأموال، وكبار المتعاملين بالأمن والاستقرار في مجتمع معين أقدموا عليه بالتجارة والأعمال التي تصاحبها، مما يساهم في رواج البضائع، ووفرة الناتح، وتعاظم الأرباح.
ويمكن التأكيد على أهمية الأمن المجتمعي من خلال الأهداف التي يمكن تحقيقها في ضوئه، ومن بينها:
وللحديث بقية بإذن الله تعالى ……
د.سليمان الكعبي-باحث دكتوراه في المناهج وطرق اتدريس-جامعة السلطان قابوس