الإحلال العشوائي بالخليج سم قاتل لا تقربوه
هلا سألنا أنفسنا عن سر تقدم مجتمعات أميركا وبريطانيا وألمانيا وكندا وفرنسا وسويسرا واليابان واستراليا والسويد وهولندا ونيوزيلاندا ، إنها الدول الأُول على مستوى العالم في جودة التعليم – طبقًا لأخر تصنيف للأمم المتحدة – مؤشر دافوس العالمي لجودة التعليم – وفق معايير علمية تتسم بالموضوعية والشفافية والعلمية ما يؤكد صحة نتائجها .
ليس ثمة شك في أن التعليم رأس حربة نهضة ورفاه الشعوب وأساس بناء الأجيال لمستقبل يعتريه الأمن والسلام النفسي والإدراك السليم وهو حجر الزاوية في تقدم المجتمعات ، لذلك تحرص كافة الدول الساعية لمستقبل جيد لشعوبها على وضع التعليم في مقدمة أولوياتها فإن كانت ثمة تجارب بالصناعة بالسياحة بالزراعة بالبحث العلمي فلا مساس بالتعليم إلا بمشرط جراح ماهر يدرك عواقب كافة إجراءاته على مستقبل مجتمعه .
فمن يرغب في تدمير أواصر مجتمع ليس عليه إلا أن يبدأ بالعبث في القواعد الرصينة التي تحمل التعليم ، فلا يحسن وضع الخطط التعليمية المستقبلية ولا يعتمد الكفاءة والتخصص والخبرات معايير رئيسة في انتقاء المعلمين أو إنهاء خدماتهم ، ويتهاون في الاختبارات فيغمض عينيه عن حالات الغش في الاختبارات . فذاك تدمير سريع يتجرع المجتمع شرابه المر بعد عقدين على الأقل من تطبيق إجراءات من دون دراسة واعية فتبدأ المثالب تظهر تباعًا فترى الناس يدفعون حياتهم على أيدي أطباء نجحوا بالغش بعد أن تلقوا تعليمًا يتشح بالعوار على أيدي قليلي الخبرات من المعلمين ، تنهار البيوت بسبب مهندسين ضعاف ، تتهاوى البورصات بسبب محاسبين مهترئي التعليم ، تتوه قواعد الشريعة على أيدى مشايخ لم يتعلموا العلم الشرعي السديد وبشكل صحيح عبر أهله ، يضيع العدل على أيدى قضاة لم يتعلموا العدالة بعد أن عبروا الاختبارات بشكل غير شرعي ، ومن أسوأ النتائج للعبث بمقدرات التعليم وعدم إعمال المعايير العلمية السليمة المتجسدة في الكفاءة والتخصص والخبرات ، أن يسود الجهل عقول أبناء المجتمع جراء معلم نجح بالغش وتعلم على أيدى من لم يتعلم جيدًا.
إن الإحلال اتجاه إقليمي تتخذه دول الخليج العربي لتوطين أبنائها في كافة الوظائف الحكومية بدلًا من الوافدين لتعديل التركيبة الديموغرافية بدولها التي تعج بالوافدين – وهذا أمر سيادي وحق لكل دولة لا مناص . ومن بين 58.5 مليون يعيشون بدول الخليج الست هناك 29.3 مليون من جنسيات أخرى استعانت بهم دول الخليج لخبراتهم المتنوعة في مجالات عديدة لا يجيدها أبناء الخليج ، مدركين أن بناء الأمم إنما يرتكز على ثقافة التنوع وتبادل الخبرات والأفكار فلم تقم حضارات عبر التاريخ إلا بسواعد متنوعة ، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها ، فالمستشفيات والمدارس والمصانع والمتاجر يعمرها وافدون ليسوا من أبناء الخليج ولا ضير في ذلك فهم يسهمون في نهضة وعمران الدول ومعظمهم تتملكه نسبة ولاء وحمية تكاد تعادل ولاء المواطنين ، فضلًا عن تميز إبداع ملايين منهم .
لكن اتجاه الإحلال في دول الخليج يعتريه عوار يضرب آلياته ومعاييره التي يستند إليها ، وآخره قرار وزارة التعليم في دولة الكويت إنهاء خدمات أكثر من ألفَي معلم ومعلمة من جملة 22462 معلمين وافدين يشكلون نسبة 27.6 % من إجمالي المعلمين والمعلمات في المدارس الحكومية البالغ عددهم جميعًا مواطنين ووافدين 84125 ، المشمولون بقرار الإحلال من ذوي الخبرات المتراكمة في عدة مواد مهمة في التعليم العام لذلك فالقرار يُخشى أن يسبب أرقًا شديدًا للساحة التعليمة وخللًا بالميدان التربوي في العام المقبل بسبب الفراغ الكبير الذي سيتركه هؤلاء وما ينجم عن ذلك من تحميل وزيادة أعباء المعلمين الكويتيين ، وقد أعرب السواد الأعظم من الموجهين والمديرين الكويتيين عن استيائهم من قرار الإحلال لاسيما في ظل تغييب آرائهم في المعلمين المشمولين بالقرار ومنهم أصحاب خبرات وكفاءة عالية يصعب الاستغناء عنهم فهم أعمدة في مدارسهم وأصحاب بصمات إيجابية يشهد بها الجميع ، ولا يزال الضباب يكتنف مستقبل ذلك القرار البعيد عن معايير المنطق والموضوعية والعلمية بعيدًا عن تناوله من الجانب الإنساني – رغم أهميته – لكننا في هذا المقال نطرح المسار العلمي للقضية بهدف الحفاظ على مستقبل قرابة 460 ألف طالب وطالبة في مراحل التعليم العام ، 184 ألف منهم في المرحلة الابتدائية – 157 ألف بالمرحلة المتوسطة – 116 ألف في المرحلة الثانوية -3192 طلاب في المعاهد الدينية متوسط وثانوي . إن العلم الحديث ليعلي ثقافة التنوع لاسيما الإدماج في أماكن العمل وما ينتج عنه من إيجابيات وغزارة في الإنتاج على المدى البعيد ، لذلك يجب أن يكون الإحلال مدروس بعناية مستندًا إلى معايير علمية سليمة تنأى عن العشوائية غير المنضبطة التي تضر بالتعليم .
ومن خلال خلاصات بحثية في هذه القضية أرى أن تسيير الأمور في دول الخليج في ملف الإحلال عبر مساقات أربع بعدها يبدأ ملف توطين المواطنين في الوظائف الحكومية وغير الحكومية.
المساق الأول : محاربة تجار البشر ممن يتاجرون في الإقامات من المواطنين فيستقدمون العمالة الهامشية التي لا تحمل تخصص ولا عمل مقابل حفنة من الدنانير ، فباستغلالهم لحاجة الفقراء من الدول الأخرى يضرونهم بجلبهم بلا عمل ويضرون أوطانهم لتسبب بعض أبناء الجاليات الأخرى في ارتفاع نسب الجريمة والإخلال بالأمن والضغط على المرافق الصحية والطرق بتلك الدول ، وحال تجفيف ذلك النبع السيئ يتضح جزء كبير من الصورة ، فيتم الاستغناء عن العمالة الهامشية تباعًا إلا أصحاب الحرف منهم ممن ينتسبون إلى مؤسسات فاعلة .
المساق الثاني : بدء مشروع تدريبي ضخم يستمر لمدة خمسة أعوام متتالية على مستوى دول الخليج كافة لتدريب المواطنين على مختلف الحرف والمهن ( طب – تعليم – هندسة – اعلام – محاسبة – متاجرة – قانون – والمهن الحرفية اليدوية ) فمصدر الدخل الوحيد ” النفط ” ووفقًا لقراءات علمية سينضب عام 2050 وبالتالي لابد من خطة تستشرف مستقبلًا خالي من النفط .
المساق الثالث : تتجنب وزارات التعليم في تلك الدول الست تطبيق الإحلال إلا وفق معايير محددة تعتمد الكفاءة والخبرات المتراكمة وحجم إنتاجية المعلم ونسبة تأثيره النوعي في جودة التعليم سواء في التعاقدات الجديدة أو في إنهاء أعمالهم ، شريطة ألا يبدأ تطبيق الإحلال بالتعليم إلا بعد انتهاء مشروع الخطة الخمسية لتدريب الخريجين الشباب من أبناء الخليج وصقل خبراتهم في الحقل التعليمي .
المساق الرابع : تلجأ حكومات الخليج لرفع المدخولات المالية لأبناء الوطن للإقبال على الوظائف النوعية مثل التعليم الذي يُعد أحد أشرف وأجل المهن لاسيما في مجتمع ترتفع فيه نسبة الإناث عن الذكور ، الخريجون من المواطنين لا يقبلون على مهنة التعليم لإدراكهم أنها مهنة شاقة تحتاج قدر عالي من الانضباط والتركيز والجهد ومردودها المالي لا يتناسب مع نفقاتهم لذلك لا يتحمسون للانضمام إلى ميدانها ، فعلى الحكومات أدوار مهمة منها أن تحث أبنائها على تغيير ثقافة تعاملهم مع ميادين العمل المختلفة وفي القلب منها التعليم ، فالمستقبل لا يعلم تغيراته إلا الله نسأله – سبحانه – الخير والسداد لدول الخليج وكافة الدول الإسلامية والعربية حول العالم ..
وفي النهاية تبقى كلمة لصناع القرار التعليمي في دولة الكويت الله من وراء القصد فيها : دواء الإحلال – العشوائي – سم قاتل لا تقربوه فهو بالتعليم إخلال لا إحلال ، مستقبل نصف مليون متعلم ومتعلمة في مراحل التعليم العام الثلاث أمانة في أعناقكم .