أخذت المياه في الآداب العالمية عامة صورًا من الماء ينبغي أن تلعب مثل هذا الدور البارز والمتكرر على سبيل المجاز في الأدب، وليس من المستغرب نظرًا إلى المكانة الأساسية للمياه في الحياة نفسها. الماء هو بطبيعة الحال قابل للتغيير وضمان استمرار المياه في جميع أنحاء الأدب بمثابة التمثيل ليس فقط من الولادة ولكن الموت، وليس فقط من رباطة جأش ولكن من العنف، ينقل المياه إلى بطل عظيم في مغامراته ويحمل له المنزل؛ فالمياه تبشر كل من الحرية والاستعباد دعوة متلألئ سطحها في أعماق غامضة وصعبة.
ومن المياه في شكل البحر التي أسرت مخيلة معظم المؤلفين البحار يحتفظ في سوسة الخالدة حول الشواطئ فقد لاحظ الشاعر جون كيتس “سوسة الخالدة” تم فك شفرتها من الكتاب لعدة قرون من هوميروس ودانيال ديفو إلى والت ويتمان وإدغار ألانبو وجوزيف كونراد، من صموئيل تايلور كوليردج في “قشرة من الملاح القديم” وهيرمان ميلفيل في موبي ديك وستيفين كرين “السفينة فتح” ممر لتشارلز جونسون الأوسط وجون بارث وحكايات مياه المد.
أما الأدب العربي بشقيه شعر ونثر اهتم اهتماما كبيرًا في كافة الأعمال الأدبية وإن كان للشعر النصيب الأوفر منها؛ فقد تعددت صور الماء كرمز للحياة والخصوبة والنماء منذ القدم حينما شكلت بعض المعتقدات الأسطورية والموروثات الشعبية المتصلة بظاهرة الماء التي أخذت تغزو عقل الإنسان القديم فتؤلف ثقافته ووجدانه، وتشكل لغته الفنية في استغلال ظاهرة الماء في منتجه الأدبي.
وبالنظر إلى حال العرب فهم مثل غيرهم من شعوب العالم القديم فقد كان لهم شأن كبير مع الماء، ذلك أن الجزيرة العربية من البقاع الجافة فالأمطار فيها شحيحة والأنهار الكبيرة لا وجود لها، والعيون قليلة وهو ما جعل للمياه أهمية بالغة، جعل من الجاهليين مثل غيرهم في العصور التالية يرون في الماء ومصادره قوى مقدسة.
فقد أفرد أدباء كثر أجزاء كبيرة من نتاجهم الأدبي من الأمثال والحكم والأقوال المأثورة وخطابتهم للماء وما أشتمل عليه من ألفاظ ومجاز وتلخيص للتجربة بشكل مكثف، كالتي أوردها الشاعر ابن المعتز في “مائياته”.
حفل الشعر العربي بكثير من الصور المائية داخل القصائد في كل الموضوعات الشعرية من غزل ومديح ورثاء وهجاء وغيرها، إما منفردة أو مرتبطة بالوصف الذي ينفذ منه الشاعر لغرضه الأصيل، فنجد في العصر الجاهلي هيأت الأطلال لاستقبال ربة الخصب والمياه، راح الشاعر القديم يخلع على هذه المحبوبة كل الصفات التي تؤهلها لكي تصبح مختلفة عن جميع النساء حتى تكون صالحة للقيام بالدور العظيم الذي تقوم به، وهو إعادة الحياة والإشراق إلى وجه الأرض، فمنهم من توقف عند تشبيهها بأنها “بردية” نبتت في الماء، ومنهم وصف “ريق المحبوبة” بالجودة والعذوبة.
ويقول الأعشى:
وبارد رتل عذب مذاقته…….. كأنما عل بالكافور واغتبقا
ومهما ترف غروبــــــــــــــه ……..يشفي المتيم ذا الحــــراره
ويقول النابغة الذبياني:
زعم الهمام بأن فاها بــــارد……..عذب مقبله شهي المورد
أما العصر العباسي فكانت الأغراض الشعرية التي تجلت وظهرت فيها صور الماء:
الفخر:
فنجد للبحتري في الفخر بضاعة جيدة، وقد توافر له عاملان رئيسيان هيئا له التألق وطول الباع في الفخر، أولهما: انتماؤه الثابت إلى واحدة من أعظم القبائل العربية وهي طيء، وثانيهما: أنه كان أعظم شعراء عصره دون منازع، وأنه نال من آيات التقدير والإجلال أقصى ما يطمح إليه الشعراء.
فجد سخر مفردات الطبيعة المائية لخلق صور فنية تشعر المتلقي بقوة تحدي قوم الشاعر للأخطار وسرعتهم في تقديم النجدة، فأقام قومه مقام الغيث في الكرم، وأقامهم مقام السيول في سرعة تقديم النجدة قائلا:
وليوث من طيء وغيــوث……..لهم المجد طارفا وتليــــدا
فإذا المحل جاء جاءوا سيو…….لا وإذا النقع ثار ثاروا أسودا
وغدت الآبار مصدرًا للفخر عند البحتري، وذلك حين امتدح الخليفة المعتز بالله، وفاخر بأجداده الذين يرجع بنسبهم إلى بطون قريش التي سكنت مكة وامتلكت بئر زمزم، فيقول في ذلك:
يا ابن عم النبي والحبر والسجاد…….والكامل الذي بان فضلا
لهم زمزم وأفنيـة الكعبـة……..والحجر والصفا والمصـلى
وهكذا تكون المائيات قد أثبتت وجودها في هذا الغرض من شعر البحتري.
الغزل:
في غزل البحتري نجد المائيات واضحة ممتزجة به، ودليل تداخلهما أنه حين يتغزل يشبه حديث محبوبته بالغيث، وذلك في مقدمته الغزلية التي استهلها في مدح أحمد بن إبراهيم قائلأ:
وحديثها، كالغيث جاد بوبله……في حادث المحل الشديد غمام
والمرأة والغيث رمزان للخصب والحياة، فابتسامتها وبل استعارته الرياض رداءً لها، وفي ذلك يقول في مقدمته الغزلية التي انتقل بعدها إلى غرضه الأصلي وهو الفخر قائلًا:
في رياض قد استعارلها الوبـ……ـل رداء من ابتسام سعـــــاد
وسعاد غراء فرعــاء يسقيـ……ـك عقارًا من الثنايا البــــــراد
وهذا اللون من الشعر يشتمل على بعض الجوانب الحسية التي تتصل بالوجه.
الحكمة:
كان البحتري يستلهم حكمه من صحيح تجاربه وتفاعله مع الحياة وتأمله في الكون وإسقاطاته عليه وعلى الآخرين، وكثيرًا ما كان يمتد بتلك التجارب المباشرة المحدودة إلى آفاق اللامحدود ورحابه، فمن حكمه التي ضمنها مفردات الماء ما ذاعت وانتشرت وجرت مجرى الأمثال، ومنها ما قاله في مدح أبي بكر محمد بن العباس:
وهل جـــــــــــرح يرب بعير آس؟
وهل غـــــرس يطول بغير ماء؟
ومن أبياته التي اصطنع الحكمة فيها قوله ضمن قصيدته التي مدح فيها الحارث بن عبد العزيز المكني “بأبي ليل”:
لا تحقرن صغير العرف تبذلــــــه
فقــــد يروي غليل الهائم الثمد
فالبحتري يشير في حكمته السابقة إلى عدم جواز الاستهانة بصغائر الأمور، فالماء مهما كان قلى لا قد يروي غليان العطشان.
العتاب:
نجد البحتري في بعض الأحيان يعاتب متخذًا من الطبيعة المائية متكأ له في عرض معانيه المجسدة لعتابه، ومن ذلك عتابه الوزير الفتح بن خاقان حين تباطأ في تقديمه إلى الخليفة المتوكل على الله فقال:
وما منع الفتح بن خاقان نيله
ولكنها الأقدار تعطي وتحــــــــــــرم
سحاب خطاني جوده وهو مسبل
وبحر عداني فيضه وهو مفعم
وبدرٌ أضاء الأرض شرقًا ومغربًا
وموضع رجي منه أسود مظلـــم
أأشكو نداه بعد ما وسع الورى؟
ومن ذا يذم الغيث إلا منمــــــــــم
فالبحتري يشعر بخيبة أمل، وقلق من تباطئ الفتح في تقديمه إلى الخليفة، ودليل خيبة أمل الشاعر، تشبيه الوزير بالسحاب الصيب الذي تخطاه جوده، وبالبحر الذي تعداه فيضه وسيله واستخدام الشاعر لأسلوب الاستفهام في البيت الأخير يعكس علاقة الشاعر المتوترة القلقة بالآخرين.
حاولنا أن نقدم نماذج لصور المياه في الشعر العربي القديم مسترشدًا بأنماط من المنتج الشعري الذي قدمه لنا شعراء العصر الجاهلي والعباسي، واتضح أن الشعراء القدامى تأثروا إلى حد بعيد بصوت الماء ونوعوا في صوره ومزجوها بأغلب الفنون كالمديح والغزل والحكمة والفخر والعتاب.
النماذج التي قدمناها في العصر الجاهلي اهتمت بالنواحي العقائدية واتجهت إلى الأسطورة في بعض الأحيان ملتمسه البعد التقليدي لدى الإنسان القديم، واتضح من خلال نماذج العصر العباسي انها استمدت من واقع حضاري تلمس في ثناياها روح التأثر بروافد ثقافية متعددة.
إن المتلقي يستطيع أن يجد نفسه من خلال تلك السحابة الكونية المتمثلة في الماء وتجلياته عبر نماذج قدمنا بعضا منها على سبيل التجربة، ومازالت كتب الأدب والنقد تحتوي علي نماذج إبداعية في هذا السياق، نحو تجليات أخري للقراء الأعزاء في مقالتنا القادمة.