وشوشة على ناصية الطريق:

on 01 November 2022, 08:00 AM
د.محمد الزبن
د.محمد الزبن

بعد أن يدرج أحدُنا على عتبات العاشرة من عمره، خارجًا من طفولته البريئة، يفتح نافذة البيت ويجلس ينظر إلى الطرقات والسالكين فيها، فينتابه خليطٌ ممتزج من التأمل والتفكر والفأل واليأس والحزن والفرح، فذلكم خليط باديا على أحوال السالكين.


وما هي سوى سنوات ويستقلّ دربه، ويسلك طريقه، محاولا أن يكون بعيدا عن “سيطرة” الوالدين، ولكنه يبقى قريبا مما تعلمه منهم، حاملا وصاياهم، وبعض ذرات من فهم الحياة، كان يظنها جبال الفهم للحياة، وقريبا ما يستبدلها بالجبال إن اعتلاها.


وفي الطريق يختار بعضُ الناس دروبًا صعبةً، لكنّ القمّة ظاهرةً من أقصى المدينة فهو يسعى إليها، وأولئك هم الحكماء والعلماء والعظماء من كلّ مجتمع زمانا ومكانا، ومما يتحملونه لسلوك هذا الدرب أنهم يعيشون للفكرة وللمبدأ، فهم يغرسون والناس يقطفون، وهم يعطشون والناس يرتوون، ولا يرون لأنفسهم ميزة لغيرهم.


وفي الإسلام.. فالسلام علينا وعلى عبادالله الصالحين، الذين يخصونهم المسلمون بالسلام في كلّ صلاة، فهم الذروة في الاتباع، وهم الأدلاء على الطريق.


وعلى ناصية الطريق يبدو أنّ أناسًا يمكثون مليًّا، وآخرون يأخذون بنيات الطريق للنفَس حتى يطول، وللنفس حتى تأخذ قسطا من الراحة، فيسددون الواجبات، ويستبدلون الذي هو خير وبتركون الأدنى مكانا ومكانة.


وكم كانت لنا غفوة طالت فاسطالت، وأعقبها ندم على ما فات، وأرقٌ لما هو آتٍ. وكم من نباهة وتنبيهة من نبيه أيقظتنا وشمس التأخير تلفح جنبينا، فكانت لملمة الأوراق نعمة من ربّنا.


وكم كان لنا مع النفس همهمات ووشوشات أثناء الجلوس على ناصية الطريق، فكانت هذه إحداها، فسطرتها كي لا أنْسى، فقد ينتاب السالكين ما يُلهي، والذاكرين ما يُنسي:
يا نفسُ.. إنّ مرتبة العلماءِ بين يديكِ، ولا يُحرم منها طالب لها، ولكنها تحتاج سعيًا حثيثًا، وجدًّا متواصلا، واهتماما واسعا، وسعة في الصدر، وعمقًا في الفكر، وبعد وقبل ذلك إخلاصًا لا يفنى ولا ينقطع، وتتبعا للناجين لعلّك تنجين.

يا نفسُ.. إنهم أهل العلم الذين يَرشدون فيرشدون، والذين يقرأون الكتاب ويعلمون الناس ما يوصلهم إلى المقصد، حيث الحوض المورود، والباب الذي يقال عنده لنبينا صلى الله عليه وسلّم: “أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك”. فهنالك رضا ربّنا ورضوانه.

يا نفسُ.. لا تبتعدين كثيرا، ولا تأبهين بالمكوث هنا فالطريق أمامَك، والدليل صلى الله عليه وسلّم إمامَك، فإن رامك أمر، أو اعتلاك همٌّ، أو اعتراك معترك، فأقللي الهمّ والاهتمام، وقابيسي ما أنتِ فيه، لما أنتِ واردتيه، واختاري الأسلم فالأسلم.

يا نفسُ.. اُنظري ما تريدينه، فإن كان عاجلًا فعاجلًا غادرينَه، وإن كان باقيا فامكثي فيه حتى تنهينه.

وانظري إلى أولئك الحكماء والعلماء والعظماء، كيف يبصرون أمدًا بعيدًا، ويسيرون بخطوات ثابتة، ونظرات ثاقبة، فيصلون إلى قمم ييأس دونها الغافلون، وتتكسر عزائم القاصرين عن رؤية القمم، فإن أعشاك غروب، فانتظري ساعة وأدلجي فالنجوم عربية، وهي أخوات لشمس الصباح.

يا نفس.. لا أريد أن أحدثكِ عن آيات القرآن الكريم، وما للطائعين من جنة الخالدين، ولا عن أحاديث سيّد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وعن سيرته العطرة، وسريرته الصافية، ولا عن صحابته النجباء ليوث الدجى، ومنارات الهدى، ولا عن التابعين لهم بإحسان، فكلّ ذلك وغيره تجده في تهذيب النفسِ، ومسلك السلوك، وخريطة الطريق.. تقرأُه في الطريق.

فهيا.. وأدرك ما قد فاتك، وما فاتك ليس بالقليل، وما أدركته سيبقى قليل، ولكنّ اللهَ أكثر، وأجره أكبر، “وما عند الله خير وأبقى”.

وإلى اللقاء يا نفس على ناصية أخرى.. ووشوشة أظرف، وعمل دؤوب، وعلمٍ يزيدك عزمًا، وهمًّا يزيدك همّةً.

——–
(من كتاب: حروف على أوتادها، للكاتب: محمد عبدالجبار الزبن، نشر: أغسطس، 2022م).f;”>