الإجراءات الشعبية والحكومية (التعليمية) في مجابهة الجوائح بالأندلس
يشارك الباحثان أ.د برزان ميسر جامعة الموصل بالعراق و أ.د خالد الدليمي جامعة تكريت، في المؤتمر العلمي الدولي لجامعة الإسراء –فلسطين- كلية الدراسات المتوسطة – التعليم والتدريب المهني والتقني بين تحديات الواقع واستشراف المستقبل ” وقالا في مستهل البحث المقدم للمؤتمر : تناولنا في هذه الدراسة محورين رئيسيين هما : الإجراءات الشعبية والإجراءات الحكومية(التعليمية) في مجابهة الجوائح التي نزلت بالمجتمع الأندلسي، واتضح لنا أن لهذين المحورين أهمية كبرى في ديمومة سلامة المجتمع وشد أزره في مجابهة النوازل الواقعة به .
فهذا المجتمع المنكوب لم يستسلم ولم يمت ساكناً بل استنفر كل قواه المادية والمعنوية وجاهد بها لتأمين حياته، فخرج الإمام وقام بواجباته المعّول عليه بها في الملمات وضمد الجراحات بالآيات المحكمات وبالأحاديث النبوية المستقاة من وحي السموات .
وتابعا : و قد أسهم معه الخطباء بأبلغ الخطب، والتي كانت بلسماً للجراحات، وقد جابت كلماتهم العالية جميع الولايات، إذ صدحت بها منابر الأندلس تدعوا الناس إلى التقوى وبذل الصدقات ليرفع بها الله تعالى جميع البلاءات، وساهم العلماء وفي مقدمتهم الأطباء بمساهمات لتقديم النصح والإرشادات والعلاجات بما حوته الطبيعة من خزين ونباتات، وأبلوا البلاء الحسن في تحقيق الشفاء بإذن رب الأرض والسموات.
أما محورنا الثاني فهو الاجراءات الحكومية(التعليمية) التي اتُخذت في مواجهة ومجابهة الجوائح التي حلّت بالمجتمع الأندلسي ، فإننا لاحظنا الإسهام الحكومي الكبير تجاه ما يحل بالمجتمع من نوازل وهذا متأتٍ من خططها الرسمية مادياً ومعنوياً، والتعليمات التي تصدرها فهي تتضامن بشدة مع الشعب وتتكفل بحمايته ورعايته مما يعزز الصمود في المواجهة حتى تنجلي عنهم .
وأكدا أن إمكانيات الدولة عادةً تكون عالية ولديها القدرة في المواجهة وتسخّر قدراتها المالية كلها لإعانة المنكوبين وإطعام الجائعين وإكساء العارين ومعالجة المكلومين المصابين، وإخلاء المحاصرين بوساطة العساكر المجندين وايوائهم في مكانٍ أمين .
وعلى الرغم من الوقع الأليم لكل كارثة تحل بالبلاد فإن لذلك ردود أفعال تقوم بها الدولة والمجتمع على حد سواء من توفير الدواء والتموين وخزنها في مكان قريب المنال لجميع الولايات وإجراء تدريبات عسكرية لكل طارئ سواءً كانت النازلة زلزلة أو بركان أو حريق أو نار أو خسف أو فيضان أو جفاف أو انتشار أسرابٍ من الحشرات والجرذان، حيث شهدت الأندلس الكثير من هذه الإجراءات عبر العصور في جميع المدن والثغور. وسنعزز كلامنا بنصوص تاريخية زودتنا بها المصادر الاولية عن كثير من الجوائح التي أصابت المدن الأندلسية ، وأهم الإجراءات التي جوبهت بها سواءً كانت إجراءات حكومية أو إجراءات شعبية اجتهد المجتمع الأندلسي في اتخاذها وتطبيقها .
وجدير بالذكر أن الجوائح في الأندلس كانت على مستويين، أولهما : جوائح فردية محدودة لا تتعدى نطاق فرد أو بضعة أفراد ، وهذا النوع من الجوائح هو الذي تتناوله غالباً كتب النوازل والسجلات مثل نوازل ابن سهل وسجلات ابن العطار ويستوجب حكماً من القاضي بالتخفيف عن المتضرر من الجائحة إذا اشتكى إليه مما أصابه من ضرر وفقاً لقواعد فقهية كان معمولاً بها في هذا الصدد .
وأضافا : أما المستوى الثاني فهو الجوائح العامة التي قد تجتاح إقليماً بعينه من أقاليم الأندلس أو تجتاح عموم الأندلس مؤدية إلى مسغبة عامة وغلاء ومجاعة تضر بأهل الأندلس ضرراً بليغاً وتضطرهم في بعض الأحيان إلى أن يمتاروا من العدوة المغربية،كما حدث في سنة 136ه/786م)عندما خرج أهل الأندلس يمتارون من طنجة وأصيلا وبقية المدن المغربية الأخرى في الجائحة المعروفة بسني برباط، وكذلك الحال في سنة 232ه/847 م عندما حلّ القحط وهلكت المواشي واحترقت الأعناب، وكثر الجراد فزاد في المجاعة وضيق المعيشة، واضطر الاندلسيون إلى أن يمتاروا من العدوة المغربية، وأحياناً أخرى إلى النزوح هرباً من الجوع والوباء.
وتحدثا عن أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة فأوضحا أنها جاءت على النحو التالي :-
1- كانت الإجراءات الشعبية والحكومية متداخلة تجاه النوازل بحيث من الصعوبة بمكان التمييز بينهما أحياناً، وذلك لأنها مسؤولية الجميع فهي تضامنية تعّبر عن الشعور الإنساني في التعاطف والتكاتف في جميع الميادين وعلى الأصعدة كافة وهذا هو المطلوب شعبياً ورسمياً.
2- لم تكن لدى الحكومة الاندلسية على تعدد عصورها الإسلامية خطط واجراءات مدروسة تجاه الجوائح التي نزلت بالمجتمع الأندلسي، ولم يتدخل البعض من حكامها في بعض الأوقات من أجل التخفيف عن العامة، بل كان التدخل مقتصراً على بعض الحكّام وميسوري الحال ، وليس وفق خطط تتبناها الدولة .
3-إنّ أول خطوة في مواجهة النوازل هي الرجوع الى الله سبحانه وتعالى والتضّرع إليه في مواجهة ما حلّ بالمجتمع من هلع أو أذى، والشواهد التاريخية على ذلك كثيرة ومنها صلاة الاستسقاء وصلاة الخسوف والكسوف والدعاء في القنوت ببيوت الله تعالى في الصلوات المكتوبة وغيرها حتى تنجلي عنهم الغمّة، وهذا هو المطلوب شرعاً ليكونوا مع ربهم دوماً .
4-نلاحظ أثناء النوازل أنّ المجتمع والدولة يكونان سخيّان ويسخّران كل إكانياتهما وممتلكاتهما وقدراتهما المادية والمعنوية في مجابهة النازلة التي تحّل بهم .
5-مما يلفت الإنتباه أن علماء الأمة أثناء حصول النازلة يؤكدون على منع رفع الأسعار أو احتكار الأقوات ويذكرونهم بالعذاب الإلهي الشديد ويقوم صلحاء الأمة وأهل الحسبة بمتابعة هذا الشأن في الأسواق والمخازن والتشديد على التجار غير مسلمين من فئات المجتمع الأخرى أو الوافدين من أهل الذمة الذين لا يفقهون بالشرع الإسلامي أثناء حصول النازلة .
6-مما تجدر الاشارة إليه أن المجتمع الإسلامي مجتمع منظم وأن حكومته أتت لترعى مصالحه ودليل قولنا هذا أن الحكومة في الأندلس أوجدت وظيفة وكالة السقيا لتنظيم الري ، وهذا ما لم يلتفت إليه أحد من قبل في الدولة العربية الإسلامية مما يحسب للدولة كإجراء حكومي يشار إليه بالبنان .
7- وفي سابقة تاريخية أخرى لأهل الأندلس وكإجراء صحي وقائي قاموا بارتداء الكمّامات وألزموا اصحاب المطاحن والمخابز والمهن الأخرى التي لها علاقة بأقوات المواطنين بإرتدائها أثناء العمل .
8-ومن الإجراءات الصحية الشعبية والحكومية في الأندلس قيامهم بعمل جماعي تضامني في توفير الأعشاب والعقاقير الطبية وبناء دكاكين خاصة بها ومشافي للمرضى وتأهيل الأطباء والخبراء للقيام بهذه الواجبات على أتم وجه أثناء الأزمات، ومما يُشار إليه أن هذه الإجراءات أغلبها مجاناً يقدمها الأطباء والعطارون والصيادلة حسبةً لله تعالى .
9- كذلك فإن موضوع الحجر الصحي كان معمولاً به لمنع انتشار الأمراض والأوبئة كما فعل آبائهم في أزمات سابقة في البلاد التي جاءوا منها إلى الأندلس .
10-أما إذا عجز الناس والسلطات عن مجابهة النوازل وتداعياتها فإنهم يهاجرون إلى بلاد أكثر أماناً، كما فعل أهل الأندلس بالهجرة إلى مدن المغرب العربي في أوقات مختلفة .