أيها الكاتب الواعد، اسمع مني نصيحة من مكث نحو عقدين من الزمن يكتب لنفسه لا غير، و يختلي بكتابته كأنه في خلوة تعبدية يتنزل عليه وحي الكتابة.
إن الكتابة أيها الكاتب توأم القراءة، وُلدا يوم ولد الفكر، فخطت ريشة الإبداع إحداهما في صفحات الوجود و التأمل، و أملت شفاه الشغف للقراءة ما كتبت ريشة الإبداع على فضاء الذوق الجميل، أو قل أنهما مرآتان متقابلتنا ترى في كل واحدة منهما صورة الأخرى، فاقرأ قبل أن تكتب، و لا تحاول أن تكتب ما تقرأ، بل دع مصنع الذوق يعيد إنتاجه؟ و اترك لأفكارك بصمتها، فليس الكاتب من ينسخ ما قرأ و لا من ينقل أفكار من كتب معلبة جاهزة، إنه يستفيد من الأفكار و ينمي ذائقته الأدبية بما سمع و رأى و قرأ، دون أن يتماهى في حلة الكاتب الآخر، و إن أضعف لحظات الكاتب هي حين ينقل ما كتب كاتب دون أن يضيف لما نقل تحليلاً عميقاً، و ذوقاً أنيقاً يجعل ما نقل مجرد إثارة لموضوع.
إن الكتابة همسة من همسات الوجود، و وحي من إيحاءات العقول، تسكن في حيز الوجدان و تحلق في سماء الإبداع طيور تغني لروادها أنشودة الحياة، و ترسم في خيالاتهم لوحة الجمال، فتجعلهم يتلهفون لسماعها و يشتاقون لرؤيتها و ينتظرونها في لحظة صفاء قلما تجدونها في معترك الحياة المليئ بمنقصات ذلك الصفاء، فتراهم يبحثون عنها في أروقة المقاهي الهادئة، و على شواطئ البحار و تحت ظلال الأشجار، و في مفازات القفار، و قد يأتيهم داع الكتابة و هم في ضوضاء العمل، فيغادرون مكانهم باحثين عن زاوية هدوء، و إلا ارتد وحي القلم عنهم، فآلمهم ذلك أيما إيلام، إن من أخطاء القراء أنهم يبحثون عن الكتابة قبل أن تبحث عنهم، و يلوون ذراعها باقتطاف بعض المقاطع الجميلة التي كتبها الآخرون.
و هم بذلك كمن ينشد الشعر عروضاً، فيبحث عن متحرك و ساكن، لينثر عليه همس الشعر و إيحائه، فتأتي القصيدة مع صحة وزنها، مرهقة البدن منزوعة الدسم، و إن الكاتب هو أول من يستمتع بكتابته، و يتبناها، و يفتقدها كما يفتقد الأب أبناءه، و يجد فيها انتماءه، و يتذكر فيها لحظات ولادتها و كيف خرجت من رحم الخيال، إلى فضاء المقال.
فكن أيها الكاتب قارئاً نهماً، و انتظر لحظة التحول من ذلك القارئ النهم، إلى الكاتب الفطن، فهي لحظة تأتيك بغتة، دون أن تبحث عنها، فلربما بحثت عن القلم فلم تجده، و أردت ان تشتريه بما تملك، و صرت تدور كالولهان السكران، على شفاهك كلمات تحتاج أن تنزل على الورق إبداعاً جميلاً، حينها فقط، اكتب ما تشاء فإن مجلس الكتابة الموقر يفسح لك المجال بكل احترام و امتنان.