يجلس العجوز على أريكة الزمان، ويطلق صافرات الآهات وزفرات العبارات، يسمعه من حوله كأنه مذياع تخترق موجاته مئات الأميال تتموج في ترانيم يفهمها السامعون أحياناً وأحياناً لا يفهمونها لغريب القول وضعف الصوت.
ويرتفع هدير الرياح وتتعالى شدة ردات الصفيق. وصداه ينادي صرير الأبواب فتجاوبه كأوتار عود يعزف الألحان ويحرك الأشجان.
والشيخُ العجوز يتلفح بالعباية من شدة البرد، فينتاب الحاضرين ضحكاتٍ من تلفعه من غير داعٍ، لأنه لا يوجد برد في شهر الكانون الذي أضحى حاراً مع شيء من القيظ.
فيرد عليهم بنبرة يفهمونها، قائلا: أَمِنْ خيبةِ الأملِ تضحكون؟ أم من شهر كانون الذي فيه لا توقدون؟.
وفي وجوم شاحب تبدأ التمتمات، مع جرد سريع لمستجدات الحياة، فتنابهم رعدة من قرع ما سمعوا.
ثمّ يشرع الشيخ بتذكير الحاضرين بأن القلوب أصبحت معلقة بهواتفها وتعيش أجواء بعيدة عن حواضرها، والزيارات المحدودة جعلت الجفاء بين القلوب يشعل منارة لينتظر أحدنا الزائر من بعيد كأن الزيارة أصبحت في موسمٍ واحد في السنة.
ثمّ هذا الجار لا يعرف عن جاره سوى نوع سيارته فقط، وممكن أن يعرف اسمه بعد سنة من الجوار، وانتهت من قواميسنا كلمات مثل: ما أخبار صديقنا فلان؟. وانتهت القرضة الحسنة بين الناس، وأصبحت الصدقات هجينة، والإنسان الذي يسعى للخير بين الناس أصبح غريباً مستغرباً.
فها هو الجفاء يعترينا جميعاً، مما أدى إلى جفاف المواسم، فالأرض مثل القلوب ترتوي بالمودة، والجفاء لا يأتي بخير.
ويستطرد العجوز:
لن أحدثكم عن جفاء أهل الأرض لربِّ السماء، فهناك العديد من الأقوال والأفعال لا نحسن فيها العمل مع الله. فقد أصبح مشروع التوبة غير وارد في الحسابات، والاستغفار لا نرى له مستساغ، ثم ننهال بالأمل نملأ به أفواهنا وننتظر أن تمطر السماء ذهباً وفضة.
وفي المقابل يظنّ الإنسان بعمل بسيط ويكأنّه من أولياء الله وأحبائه. فتراه يتكبر على الناس ولا يرى فيهم من يستحقّ الابتسامة إلا من كان على شاكلته، ويرى أنّ سيرته الذاتية هي النموذج والأنموذج.
وبعد انصياعٍ.. يقول العجوز:
لكن.. الأمل بالله كبير، يتجاوز عنّا، ويرقق قلوبنا ويلطف أجواءنا، ويملأ قلوبنا بالحبّ والودّ بيننا، وأما السماء فستمطر ولا تتعجب.. لأنها قد تمطر ليتيم فقد أباه لأمر تافه، أو لامرأة أرملة ترعى أيتاماً لها، أو تمطر لأجل إنسان يزرع ويتصدق، وقد تمطر بدعوة صالحة من مغمور بيننا ولا نأبه به.
نعم.. السماء ستمطر ولكن هل نحن حقاً نأخذ من دروس الحياة؟ أم أننا حاضرون في الدنيا للاستماع فقط؟. أم أننا ممن لا يتعلم إلا إذا قَرّعته الخُطوب؟.
من أي نوع نحن؟.
لا أظنُّ أننا من قوم أَلِفنَا النّومَ ونحسِب أننا في يقظة.. لأننا أمة اليقظة، فحيّهلا نبنيَ للإنسانية نموذجاً يحتذى، فبين أيادينا أمة القلوب الرحيمة، وكفانا جفوة وجفاءً.. وجفافاً.