ليس من دور المعـلِّم أن يُـشْعِرَ المتعـلِّم بمكامن الضَّـآلة فيه، فإنَّ ذلك يحبطه، ويدفعه إلى اليأس، وإنَّما دور المعـلِّم أن يُـشْعِرَ المتعـلِّم بمكامن المَـلَـكَة لديه، فإنَّ ذلك يسعده، ويدفعه إلى الأمل، فإنَّ الأمل الَّذي يحدو المتعـلِّم لجديرٌ بجعل العلم حُلْمًا جميلًا وليس حِمْلًا ثـقيلًا، حتَّى يصير المتعـلِّم عالِمًا متخصِّصًا في فنٍّ، أو عالِمًا موسوعيًّا في فنونٍ، وعلى أيَّة حالٍ فإنَّ حياة العالِـم لا تخلو من المتعة، وإن كان ظاهرها المشقَّة، فالعلم للعلماء كالعافية للأبدان.
والبدن إن افتقر إلى العافية فلا يُصْـلِحُهُ الطُّموح في مالٍ أو جاهٍ أو سلطةٍ، فكما أنَّ العافية منتهى الأماني للأبدان، فإنَّ العلم منتهى الأماني للعلماء، لذا فالعالِـم الحقُّ يغنيه العلم فلا يطلب المال، ويزينه العلم فلا يطلب الجاه، ويحميه العلم فلا يطلب السُّلطة. والعالِـم الحقُّ يستفتح للعلم كلَّ بابٍ، ويسير للعلم في كلِّ طريقٍ، وتكفيه لقمةٌ تقيم أَوَدَهُ، وخرقةٌ تستر عورته، فما زاد عليه من متاع الدُّنيا، فهو انتقاصٌ من العلم الَّذي يحصِّـله، فمتاع الدُّنيا انشغالٌ في اكتسابه، وانشغالٌ في إنفاقه، والعالِـم الحقُّ يزهد كلَّ شيءٍ إلَّا العلم، فالعلم أثمن ما يُـقـتـنى وأثمر ما يُجتـنى.
ولأنَّ التَّعليم في الصِّغر كالنَّـقـش على الحجر، فقد امتدح القرآن الكريم أن يشبَّ النَّـشء على العلم، يقول الله –تعالى-: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُـوَّةٍ وَآتَـيْـنَاهُ الْحُكْمَ صَبِـيًّا﴾ [سورة مريم: الآية 12]، ويستوحيها الشَّيخ رفاعة رافع الطَّهطاويُّ (ت 1290هـ/ 1873م) فيما جعله شعارًا لمجلَّة “روضة المدارس” قائلًا:
تَعَـلَّمِ الْعِلْمَ وَاقْـرَأْ تَحُزْ فَخَارَ النُّـبُـوَّةْ
فَاللهُ قَالَ لِيَحْـيَى خُذِ الْـكِتَابَ بِـقُـوَّةْ
ولرحلة العلم زادٌ يجب أن يتبلَّغ به المتعـلِّم، يجمله الإمام محمَّد بن إدريسٍ الشَّافعيُّ (ت 204هـ/ 820م)، قائلًا:
أَخِي لَنْ تَــنَالَ الْعِلْمَ إِلَّا بِسِتَّةٍ ** سَأُنْبِيكَ عَنْ تَـفْـصِيلِهَا بِـبَـيَانِ
ذَكَاءٌ وَحِرْصٌ وَاجْـتِهَادٌ وَبُـلْغَةٌ ** وَإِرْشَـادُ أُسْـــتَــاذٍ وَطُـولُ زَمَـانِ
تبقى الصُّحبة.. فالعالِـم الحقُّ يحبُّ الخُـلْـوَة، فيها يقرأ الْمَظَانَّ وتصير له مع الكتب صحبةٌ، حيث يأنس بصحبة مؤلِّـفيها، فإن كان يقرأ بعينيْ رأسه، فكأنَّ سمعه يصغي إلى أصحاب هذه الأحرف، وقد حُبِّـبَتْ إلى العالِـم مجالسة الصَّالحين، فإمِّا أن يجلس عند قدم عالِـمٍ يلتـقط ما يتساقط من طيب ثمار علمه، وإمَّا أن يحوطه تلامذته إحاطة النُّجوم بالقمر. كذلك فإنَّ العالِـم ينـزِّه مجلسه عن الشُّبهة، يقول الشَّاعر أبو العلاء المعريُّ (ت 449هـ/ 1057م): [من قصيدته أما عرف المقيم بأرض مصرَ]
فَــإِنَّ لِـهَــذِهِ الــدُّنْـــيَــا طَــرِيــقًــا ** عَـلَيْهِ يَمُـرُّ مَنْ قَـبْـلِي وَبَعْدِي
وَلَا تَجْـلِسْ إِلَى أَهْــلِ الـدَّنَـايَـا ** فَـإِنَّ خَلَائِـقَ السُّـفَهَاءِ تُـعْـدِي
ويكفي العالِـم فخرًا أنَّه يُمَضِّي سواد ليله في تَسْوِيـدِ دفاتره، إذ إنَّه يُـنَضِّـرُ قادم حياته بتبيـيض صحائفه، ففي الأولى عين الله تَـكْـلَـؤُهُ، وفي الأخرى ميزان الله ينصفه، وإن كان كلُّ ذي نعمةٍ محسودًا، فالمحسود الحقُّ هو العالِـم الحقُّ! ولاشكَّ في أنَّ للعلم أخلاقًـا بها ساد الدِّين في الآفاق وأظهره الله في العالمين، وفي هذا المعنى أقول: [من قصيدتي عقل العربيَّة الثَّـائر]
مَا كَـانَ لِــدِيـنِ اللهِ يَــسُـودُ ** إِلَّا بِــمَــكَـارِمِـهِ الْـخُــلُــقِـــيَّــةْ
الــدِّيــنُ رَصِــيــنٌ بِــالْـــوَحْـيِ ** يَـتَّــخِــذُ مِـنَ الْـعِــلْـمِ هُــوِيَّـةْ
وَيُجَادِلُ أَهْلَ الْخُلْفِ بِرِفْقٍ ** لَا يَــجْــزِي أَحَــدًا بِــطَـــوِيَّــةْ
بِالْحِــكْـمَـةِ وَالْـوَعْــظِ وَجَـدَلٍ ** يُـــتَــــوِّجُ رَأْسَ الْـــبَـــشَـــرِيَّــةْ
وطلب العلم قد يتطلَّب السَّفر والاغتراب عن الوطن، وكثيرًا ما طالعنا صفحاتٍ من مجاهدات العلماء فيه تندرج تحت “أدب الرِّحلات”، ويقول الإمام محمَّد بن إدريسٍ الشَّافعيُّ في فوائد السَّفر:
تَغَرَّبْ عَنِ الْأَوْطَانِ فِي طَلَبِ الْعُلَا ** وَسَافِـرْ فَـفِي الْأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ
تَـــفَـــرُّجُ هَـــمٍّ وَاكْــتِــسَـابُ مَــعِـــيــشَـةٍ ** وَعِــــلْـــمٌ وَآدَابٌ وَصُـــحْـــبَــةُ مَـــاجِــد
ولا يُـنال العلم من الله إلَّا بتقواه، يقول الله –تعالى-: ﴿وَاتَّـقُوا اللهَ وَيُعَـلِّمُـكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [سورة البقرة: الآية 282]، ويشكو الإمام محمَّد بن إدريسٍ الشَّافعيُّ سوء الحفظ إلى أستاذه وكيع بن الجرَّاح (ت 197هـ/ 812م)، فيرشده إلى طاعة الله، حتَّى يكون العلم ثمرة هذه الطَّاعة، قائلًا: [وقِيل إنَّ صحَّة نسبة البيتـيْـن لعليِّ بن خَـشْرَمٍ، كما أوضح الخطيب البغداديُّ في كتاب “الجامع لأخلاق الرَّاوي”- ج5/ ص57، والبيهقيُّ في كتاب “شعب الإيمان”- ج2/ ص272]
شَكَوْتُ إِلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي ** فَـأَرْشَدَنِي إِلَى تَــرْكِ الْمَـعَـاصِي
وَأخْـــبَـــرَنِـي بِــأَنَّ الْــعِـــلْــمَ نُـــورٌ ** وَنُــورُ اللهِ لَا يُــهْــدَى لِـعَـاصِـي
ولأنَّ العلم مسؤوليَّةٌ فإنَّ العالِـم يجب أن يتحرَّى ما يَـقْـدَحُهُ زِنَادُ فكره وما يخطُّه يمينه، حتَّى لا تزيغ به الأهواء أو يزلَّ بسببه خَلْقٌ كثيرون، وقال عبد الرَّحيم بن عليِّ البِيسانيُّ (ت 596هـ/ 1200م) المعروف بالقاضي الفاضل: “إنِّي رأيْتُ أنَّه لا يكتب إنسانٌ كتابًا في يومه، إلَّا قال في غده: لو غُـيِّـرَ هذا لكان أحسن، ولو زِيدَ كذا لكان يُستحسن، ولو قُـدِّمَ هذا لكان أفضل، ولو تُرك هذا لكان أجمل، هذا من أعظم العِبَر، وهو دليلٌ على استيلاء النَّـقص على جملة البشر”، [والمقولة منسوبةٌ خطأً إلى العماد الأصفهانيِّ، وأحمد فريد الرِّفاعيُّ الَّذي شهَّرها، حيث وضعها أوَّل كلِّ جزءٍ من أجزاء معجم الأدباء لياقوت الحمويِّ، والصَّواب نسبتها إلى البِيسانيِّ بعث بها إلى الأصفهانيِّ، انظر: شرح الإحياء للزَّبيديِّ- ج1/ ص3، والإعلام بأعلام بيت الله الحرام لقطب الدِّين النَّهْـرَوَالِيِّ]، ويقول الإمام محمَّد بن إدريسٍ الشَّافعيُّ: [ونُسِبَتِ القصيدة أيضًا إلى الإمام عليِّ بن أبي طالبٍ]
وَمَـا مِـنْ كَـاتِـبٍ إِلَّا سَـيَـفْــنَـى ** وَيُبْـقِي الدَّهْـرُ مَا كَـتَـبَتْ يَدَاهُ
فَلَا تَـكْـتُـبْ بِكَفِّـكَ غَيْـرَ شَيْءٍ ** يَسُــرُّكَ فِي الْـقِـيَـامَـةِ أَنْ تَــرَاهُ
ولسعة علم الله إذ يقـول –تعالى-: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَـلِمَاتِ رَبِّي لَـنَفِدَ الْبَحْرُ قَـبْلَ أَنْ تَـنْفَـدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْـلِهِ مَدَدًا﴾ [سورة الكهف: الآية 109]، فقد وعد أهل الإيمان والعلم بالرِّفعة، فيقـول –تعالى-: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [سورة المجادلة: الآية 11]، كما قرَّب نبيَّه –صلَّى الله عليه وسلَّم- حتَّى لقيه عند سدرة المنتهى، بعدما اصطفاه لتبليغ شرعه، وفي هذا المعنى أقول: [من قصيدتي تجلِّيات المعراج]
وَأَنْتَ عَـلَى بِسَاطِ أُنْسِ اللهِ تَجْـنِي
ثِـمَـارَ الْــقُـــرْبِ مِـنْ نُـورِ الــتَّــجَــلِّي
والفخر الحقيقيُّ إنَّما يكون لأهل العلم، وكلُّ فخرٍ عداه هو مَحْضُ ادِّعاءٍ؛ لأنَّه فخرٌ بعَرَضٍ زائلٍ وكرامةٍ مُدَّعَاةٍ، يقـول الإمام عليُّ بن أبي طالبٍ (ت 40هـ/ 661م) –كرَّم الله وجهه- في هذا المعنى:
مَـا الْفَـخْـرُ إِلَّا لِأَهْـلِ الْـعِـلْـمِ إِنَّـهُـمُ ** عَلَى الْهُدَى لِمَنِ اسْتَهْدَى أَدِلَّاءُ
وَقَـدْرُ كُـلِّ امْرِئٍ مَا كَانَ يُحْـسِـنُهُ ** وَالْجَـاهِــلُـونَ لِأَهْـلِ الْـعِـلْـمِ أَعْــدَاءُ
فَــفُــزْ بِـعِـلْمٍ تَــعِــشْ حَـيًّـا بِـهِ أَبَـدًا ** النَّاسُ مَوْتَى وَأَهْـلُ الْـعِـلْـمِ أَحْيَاءُ