ليست قصة المراكب بالأمر الجديد الذي يمكن أن يشغل حديث الشارع.. فمنذ القدم كانت المراكب قد اتخذت بعداً فلسفياً وسياسياً واجتماعياً ودينياً ارتبطت بمسيرة حركة الإنسان إجمالاً، أو اعتقاداته التي سترسو به إلى شط الأمان، أو تبقى حائرة في عرض البحر إلى أن تتلاشى من ملامحها بقية الحياة..!!
وحتى لو كانت الأحداث تفوق حجم علبة أدمغتنا الصغيرة، إلا أن قوة الريح ستشكل دوماً علامة فارقة في حركة الأمواج، فقد تجري المراكب مستظلة بريح طيبة، وقد تزمجر الريح لتفوق قدرة أيدينا على الإمساك بدفة القيادة مهما بلغت قوتنا..حتى (إيفرجيفن) السفينة العملاقة، توقفت عن مواصلة المسير وجنحت عن مسارها رغم ما تحمله من أثقال، لتغلق قناة السويس فلا هي سارت، ولا تركت المراكب من خلفها تسير..!!
هكذا هي المراكب عادة يا سادة.. قد تسير ضمن السيطرة، وقد تتمرد على الملاحة، وقد توقّع مع الريح هدنة مؤقتة، أو معاهدة دائمة، فالظروف عادة ما تحكم طبيعة سير المراكب… وكما يقول المثل الشعبي الليبي: (مركب الضراير ساير ومركب السلايف حاير..!!) رغم أن توقف المراكب أحياناً مهم في التزويد، أو الدعم أو حتى في إعادة الصيانة.. أو لاستبدال الألواح المهترئة، لتكون علة الوصول منطقية عند تردد مفهوم الهوية..!! فها هي (سفينة ثيسيوس) لا تزال حائرة في كشف ميتافيزيقيا الهوية، لا ندري هل رست على أحد المرافئ بقطعها المتكاملة أم لا؟ وهل كان ينبغي أن يعاد بناؤها أو ترمم أصلاً؟ ربما نعم وربما لا..!!
وفي خضم الأوضاع التي تعصف بشعوب العالم في ظل أزمة كورونا، وتردي الأوضاع الصحية والاقتصادية وفقدان الوظائف، وارتفاع قرقعة البطون، وازدياد رائحة الموت التي يعبق بها فضاء الكوكب الجميل، تبرز عبارة: “سيبوا المركب ساير”..!! ولا ندري هل السير مرهون بقوة الريح؟ أم أن الملاحة اشتاقوا لفنجان قهوة صباحي لم يحتسوه منذ مدة..!! رغم أن الماء أوشك على النفاد.. ورغم أن المركب قد لا تحتمل المسير وقد علت الشمس بأشعتها.. ولا أثر لغيم في الأفق يمطرنا بماء الحياة..!!
وقد تكون هذه المراكب رمزاً للوطنية، وللشجعان، ولبنت البلد، والحرية، ومركب ينـده عالبحرية..!! إلا أن نزعة البقاء المرتبطة بالفطرة البشرية والمرتبطة برمز الوطن تتعلق به حتى الرمق الأخير لترسو إلى ميناء الأمان..!!
فلسفة المراكب.. لا تزال تشكل قصيدة لدى العاشقين.. وشوقاً لدى المغتربين.. وأماناً لدى الخائفين.. وأملاً لدى الراغبين.. وحيرة لدى المتكلمين..!! ولا زالت المراكب منذ القدم وحتى يومنا هذا تطلب الإذن أن ترسو ، كما كانت تلك السفينة العظيمة التي حملتها ريح العناية الإلهية، وفي جعببتها قلوب المؤمنين.. فرست بسلام بعد أن هدأت العاصفة وتوقف الطوفان.. ﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾.