يبقى الإبداع سامياً محلقاً متحدياً أية ظروف تحاول إعاقته، لأن الإبداع مشروع تحدٍ لكل قيد .. والاغتراب أشد أنواع القيود .
وأنا أقلب صفحات مواقع التواصل الاجتماعي تطالعني نماذج مشرفة تثلج القلب لمبدعين مغتربين عراقيين وعرب اتخذوا من المعرفة وطن فرغم الغربة وقسوتها وجدتهم متفائلين تفكيرهم يسبق آلامهم، وخطاهم أوسع بكثير من خطى السائرين على رمال الحياة، فأحلامهم بلا حدود .
وقد يدين البعض بالفضل الكبير للغربة التي أنبتت براعم إبداعاتهم التي ما كانت لتزهر لو كانوا في موطنهم الأصلي التي حامت خناجره حولهم لكنها فشلت في تحقيق مراميها لأنها خناجر من دخان وريح وفي أحسن حالاتها خناجر من ورق الكارتون .
وهكذا هو المغترب مبدع برسم خارطة إبداعاته بحدس ورؤية، فلم يتخذ من رسالته دعاية أو وسيلة للتزلف أو المراهنة فكان عمله وإبداعه سابق لاسمه أو هويته , كشجرة تصارع الريح وتشرب الجفاف بانتظار المطر الذي قد يهطل .
كنت اعيش فرحة تمثلها عدد النجوم العربية التي سطعت في سماء الإبداع فكنت كلما وقعت عيني على سيرة مبدع عربي في أي من مجالات الحياة أو أقرأ خبراً تغمرني الغبطة غير أن هذا الفرح سرعان ما يتحول إلى غم ونكوص لأنها ولدت في تربة غير تربتها الأصلية بل إن معظمها قاطعتها وسائل الإعلام المحلية في الوقت الذي راحت تطبل للغرب عملاً بقاعدة ( مغنية الحي لا تطرب ) .
فالغربة جهد مضني بحد ذاته لانه يبلور ويساهم في تقديم عصارة الفكر وعناء التجربة في صفاء ذهن وسلالة ورقة في التناول والتعايش مع الأحداث المحيطة بمسؤولية ومتعة .
وقد تكون الغربة أخذت الشيء الكثير من حياة المبدع ونفسيته ومشاعره لكنه أعطى لها الشيء الكثير أيضاً أعطاها الصدمة لكي يبحث عن مجالات الإبداع ذات مديات شمولية أوسع. إنه قدره الذي عليه مواجهته بالصبر وإلارادة وبعطاء ثري لا يعرف الحدود. ومثلما لا يعرف أهمية وقيمة العافية إلا من فقدها فإن قيمة الأوطان لا يعرفها إلا من تشرد منها .