على المستوى الفكري والعاطفي يميل المرء بشكل فطري للتسلل تحت دثار الهدوء والسلام، ويبحث عن ذلك فيما يمكن أن يدفع مقابله الغالي والنفيس، بعيداً عن دوائر الضجر والسأم والقلق، ويختلف الكثيرون في قولبة أساليب مواجهة الأزمات، ومحاولة التخلص من السخط على الذات أو المحيط، إما على شكل تأفف أو كثير شكوى، أوعصبية أو مزاج متقلب أو نكد مستمر وغير ذلك، وربما لا تعدّ تلك الانفعالات نوعاً من الميكانيزمات بقدر ما هي نقص في امتلاك التقدير والامتنان، فيجدون في أساليب التسخط نوعاً من التنصل من المسؤوليات أو تبريراً لفوضى العلاقات، ولا يخرج ذلك عن فقدان التوازن بين الرغبات والواجبات، ليتخطى السلوك تجاه الذات والمحيط إلى الغطرسة والجحود وكفران النعم..!
وتساعد طبيعة الحياة المادية على (التعامي وقلة الاهتمام) لكثير من النعم التي تحقق وفير السعادة لمن يتأمل أو يستشعر وجودها، فيقبع في زاوية الروتين والتعود، وتعلو عباراته ورسائله كلمة: ( عادي)..!! إشارة إلى قلة أهمية ما يمتلكه الفرد أو يحصل عليه، فيما يجسد القرآن الكريم لتلك الظاهرة العميقة في بيان سعة الإنعام في قوله تعالى: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) لقمان-20، ثم في التذكير بنعمٍ لم تَعُد ضمن نطاق الرؤية لا تعد ولا تحصى، ومنها: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) النحل-70، ثم أن هذا الامتنان تقدير ممن فقه حقيقة المنعم، ومَلكَ الحكمة: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ )،لقمان: 12
ويعتبر علماء النفس وعلماء الاجتماع أن الامتنان نوع من القيم الأولى المرتبطة بالوجود الإنساني، والتي قد تغيب إذا لم تروض فيها النفس على العمل، ويذكر البروفيسور الأمريكي روبرت إيمونز رئيس تحرير مجلة (علم النفس الإيجابي) في كتابه: (شكراً: كيف يمكن لممارسة الامتنان أن يجعلك أكثر سعادة)، أن الاعتراف بالجميل وتقديم الشكر والعرفان يطور من منحى السلوك الإيجابي لدى الفرد.
وليس الامتنان كقيمة، أو التوجه بالشكر للمنعم، مجرد عادة أو شكل من أشكال الاحتفالات المقدسة في قوالبها الإنثروبولوجية التي تقدم فيها القرابين، ولا هي بقوانين مدنية توصلنا للطمأنينة والسلام، وإنما هو تفكر عميق بحقيقة النعمة، والتوجه للمنعم بالاعتراف بالجميل، والذي ينعكس بطريقة عفوية فطرية على السلوك قولاً وفعلاً : (فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُۥ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّى لِيَبْلُوَنِىٓ ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ)..فتتجلى قيمة الامتنان بكونها فطرة أصيلة أولاً ،تتحول إلى سلوك وعمل بالتفكر والتدرب.
يروي لي والد زوجي الحاج أبو شوقي، في جلسة قبل أيام قليلة، أنه لما كان في الثانية عشرة من عمره، طلبت منه جدته أن يأخذ (كرمية العجين) للفران ليخبزه _وكان أهل البلدة وقتها لا يملكون أفراناً في بيوتهم_ وقد كانت جدته امرأة كفيفة فقدت بصرها ولا تزال تمارس أعمالها بكل طاقة وحيوية، يقول: فكنت أراقبها وأتساءل في نفسي: أنّا لهذه العجوز العمياء أن تسير كل يوم للفران بالعجين لا تخطئ الطريق ولا ينقلب منها العجين وهي لا تبصر شيئاً..!! فقررتُ أن أحاكي خطاها، وأسير من بيتنا إلى الفران وأنا مغمض العينين، واختبر ذلك الشعور، واتقمص ذلك الدور الذي تعيشه جدتي، فحملت (كرمية العجين)، وأغمضت عيني، وبدأت السير كمن يمشي على الشوك بأقدام مخدرة، وقلب ينبض بشعور جديد، ولكنها خطوات قليلة فقط حالت دون استمراري، فحجارة الطريق لوت كاحلي لتجعلني طريح الطريق، ولينقلب العجين ويختلط بتراب وحجارة الأرض..!! لملمته وأنا أفكر، أأعود لجدتي بخبز يمتلئ بالحجارة والتراب، أأمسكه على هون أم أدسه في التراب؟ أم ألقي بتلك البضاعة المزجاة، واعترف بفعلتي..!! ولكني وجدت خطواتي أقرب لبيت الفرن، فناولت الخباز عجين جدتي المتسخ، وعدت به للبيت وأنا أشارك العائلة كلمات الاستغراب والاستنكار من وجود حجارة صغيرة في الخبز..!!
فتأملوا يا سادة..!! كم من نعم بتنا لا ندرك وجودها تحت مظلة: (عادي)..؟! وكم من دقائق في أصلها عظيمة نتسخطها ونتعامى عن أثرها لمجرد أننا ننغمس في طابع الروتين، ربما ينبغي أن نتمرن على قول كلمة شكراً.. ليس بالكلمات فقط، فهناك كلمات لا تدركها الحروف، تحتاج لأن نصمت قليلاً ونتفكر كثيراً حتى ندركها..! (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ(.