(الوباء من منظور الإسلام)
تَجَلَّتْ قدرة الله –تعالى- في كونه الفسيح، إذ جعل المخلوقات المتنوِّعة دلالةً على طلاقة قدرته وإعجاز قيُّوميَّته، فخلق الكائنات كالإنسان والحيوان والطَّير والنَّبات والجماد؛ لتكون شاهدًا على تجلِّيات عظمته، ولسانًا لاهجًا بذكره، حيث حصر غاية خلقهم في عبادته، كما في قوله –تعالى-: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ* مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [سورة الذَّاريات/ الآيات 56- 58].
والأصل في الحياة إسباغ الله على خلقه بالنِّعم؛ ليظلَّ العباد حامدين الله لذاته، شاكرين إيَّاه على آلائه، وتظلَّ ألسنتهم حامدةً شاكرةً طالما يرفلون في ثياب النِّعم، ومادام الإنسان ابن أغيارٍ، فإنَّ دوام الحال من المُحال، والثَّبات لله ذي المِحال، فتهبُّ على العباد رياح الابتلاء بين الْـفَـيْـنَةِ وَالْـفَـيْـنَةِ، والَّتي قد لا تكون انتقامًا من الخلق، بدليل أنَّها تصيب بارَّهم وفاجرهم، وإنَّما هي تذكير الغافلين بخالقهم، القائل –سبحانه-: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ [سورة الإسراء/ الآية59].
ويعيش الإنسان في الكون بين مخلوقات الله ما جلَّ منها وما دقَّ، ما يشاهده بعينه المجرَّدة، وما يعاينه بالعين المكبَّرة، مثل: (الطُّفيليَّات والفطريَّات والبكتيريا والفيروسات)، وإن كان الإنسان هو سيِّد المخلوقات والخليفة على الأرض، فإنَّ الله يسلِّط عليه من هذه الكائنات الدَّقيقة على هيئة طاعون –كاسمٍ جامعٍ- بين زمنٍ وآخَرَ، مثل: (الكوليرا والملاريا والإنفلونزا الأسبانيَّة وإنفلونزا الطُّيور وإنفلونزا الخنازير وإيبولا وزيكا وسارس وكورونا)، وهو ما يُعرف بالوباء أو الجائحة أو الفاشية، وتصفه العامَّة بالشُّوطة أو الفِرَّة؛ لما تمثِّـله من سرعة انتشارٍ وشدَّة إهلاكٍ، وقد تكشِّر الطَّبيعة عن أنيابها بإذن ربِّها، فتفترُّ عن بركانٍ أو زلزالٍ أو إعصارٍ، فتهرع المخلوقات لتسبيح خالقها، القائل –سبحانه-: ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾ [سورة الرَّعد/ الآية13].
وقد شاءَتْ أقدار الله أن نعيش هذه الأيَّام في زمن إحدى الأوبئة الَّتي اجتاحَتِ البلاد والعباد، وهو فيروس كورونا، الَّذي يُعرف علميًّا بـ(كوفيد تسعة عشر)، وأوَّل صفةٍ يجب أن نتحلَّى بها هي الرِّضا؛ لأنَّ هذا الابتلاء من قدر الله، الَّذي لا يُقابل بغير التَّسليم له، كما قرَّر في قوله –تعالى-: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [سورة الملك/ الآية2]، فمن لطيف المصاحبة اللَّفظيَّة أن قدَّم الموت على الحياة؛ ليعلم البشر أنَّهم إلى ربِّهم راجعون، طالَتْ بهم أعمارهم أم قصرَتْ، والأصل أن يرفل العباد في النِّعم بينما يكون الاستثناء بالنِّقم، ومن بلاغة القرآن الكريم أن ذيَّل الآية باسميْنِ جليليْنِ للذَّات العليَّة؛ هما العزيز والغفور، فسبحانه عَزَّتْ ذاته فحكم في ملكه، وأذنب عباده فغفر لهم.
وإنَّ المتتبِّع لمعجم الابتلاء في الأسلوب القرآنيِّ يجده يمتاز بالشُّمول والعموم؛ للتَّـأكيد على أنَّ سنَّة الله في خلقه أن يبتليهم؛ ليمحِّص صفوفهم وينبِّه غافلهم ويتوب على مذنبهم، ففي قوله –تعالى-: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [سورة الإنسان/ الآية2]، يؤكِّد الله على أنَّ كلَّ إنسانٍ من أمشاجٍ (أي: من أخلاطٍ) مكوَّنٍ من ماء الرَّجل وماء المرأة، فلابدَّ له أن يُبتلى، ومادام كلُّ النَّاس من أمشاجٍ، إذن فكلُّهم مُبتلًى، وفي قوله –تعالى-: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [سورة البقرة/ الآية155]، يعدِّد الله صنوف الابتلاء، ولم يجعل البشرى لغير المُبتلى، إذ ليس هناك من لم يُبتلَ، وإنَّما جعلها لمن صبر ولم يجزع، ورضي ولم يقنط.
وفي قوله –تعالى-: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَـقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْـلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْـلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [سورة آل عمران/ الآية 140]، يبيِّن الله أنَّ كلَّ بلاءٍ في الحياة مهما عظم يقوم ولا يدوم، والبلاء إلى زوالٍ، وفي قوله –تعالى-: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّـقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [سورة آل عمران/ الآية172]، يقرِّر الله أنَّ المثوبة العظيمة عنده ليسَتْ إلَّا لمن استجابوا لله ورسوله، بأن أحسنوا في ملاقاة الابتلاء، واتَّـقوا ربَّهم الَّذي جعل ابتلاءهم سنُّةً كونيَّةً لا تتخلَّف.
ولقد جاءَتْ أحكام الشَّريعة الإسلاميَّة للحفاظ على الضَّرورات الخمس، وهي: الدِّين والنَّفس والعقل والعِرض والمال، وفي قوله –تعالى-: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [سورة البقرة/ الآية195]، يحثُّ الله عباده على النَّجاة من مراتع الهلكة، وإن كان سياق الآية في الإنفاق، فإنَّ العبرة بعموم اللَّفظ لا بخصوص المناسبة، كما نَصَّتْ قواعدها السَّمحة على مواجهة الضَّرر عامَّةً، وبالقياس العقليِّ فإنَّ مواجهة الضَّرر في زمن الوباء تكون أشدَّ، والدِّين في جوهره يدعو إلى السَّعة في الأفكار والآراء، والتَّيسير في العبادات والمعاملات، وإن ظهر قِلَّةٌ من المتزمِّتين الَّذين جعلوا منه أداةً للمشقَّة فلا يمثِّـلون سوى أنفسهم، فمن القواعد الأصوليَّة: “دَرْءُ المفسدة مقدَّمٌ على جلب المصلحة”، و”المشقَّة تجلب التَّيسير”، و”لا ضرر ولا ضرار”، و”الضَّرر يُزال”.
ولعلَّ الوباء العالميَّ يجعل أصحاب موجة الإلحاد الَّتي زاد مدُّها في الفترة الأخيرة يستفيقون إلى وحدانيَّة الله، وقيَّوميَّته في ملكه، ويجعل أصحاب ثقافة الانتحار يستثمرون حياتهم الَّتي وهبها الله لهم، إذ لمَّا استشعرَتِ البشريَّة ما يهدِّد الحياة على كوكب الأرض قُدِّمَ الحفاظ عليها على سائر الأولويَّات، ويجعل أصحاب المعاصي الَّذين بارزوا الله بها يرجعون إلى كنفه، فقد تبدَّى لهم أنَّه لا يُنال ما عنده إلَّا برضاه، ويجعل أصحاب المادِّيَّة الَّذين غرقوا في التَّمسُّك بالأسباب، يأخذون بها ولكن يتشبَّثون بالمسبِّب، فسبحانه القادر على إعمالها وإبطالها وفقًا لقدرته وحكمته، فليس معنى ألَّا يستوعب العبد قدرة ربِّه أن ينفيها، وليس معنى ألَّا يدرك حكمة ربِّه أن ينكرها، ولعلَّ أولى العتبات في طريق السَّير إلى الله هي الرِّضا بقضائه وقدره؛ خيره وشرِّه، حلوه ومرِّه، صفوه وكدره؛ لثقة العبد بمراد ربِّه منه، إذ لا يحدث في كونه شيءٌ إلَّا بأمره.
ونحن في حاجة ماسَّةٍ إلى التَّعلُّق بالغيب، وأن نسلِّم بأنَّ صفحة الغيب مطويَّةٌ لا يعلم كنهها ومؤدَّاها إلَّا الله، ففي قوله -تعالى-: ﴿إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [سورة لقمان/ الآية 34]، يوضِّح الله أنَّه اختصَّ ذاته العليَّة بعلوم الغيب الخمسة، وهي: (يوم القيامة ونزول المطر ومحتوى الأرحام ورزق الغد ومكان الموت)، فلا نشغل نفوسنا القاصرة بما اختصَّ الله به، فلن تبين صفحة الغيب عن أسرارها لبشرٍ ولو أنفق عمره في البحث، والأجدى أن نعمل على تزكية النَّفس وعمارة الكون وعمل الخير ونشر السَّلام وإعلاء الفضيلة، مادام الرِّزق مقسومًا والأجل محسومًا، ومادام الوقوف بين يدي الله صعبًا، فلنشغل أنفسنا بغيبٍ آخَرَ، هو ما حَوَتْهُ صحائف أعمالنا من حسناتٍ وسيِّئاتٍ، حيث يقول –تعالى-: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حِاسِبِينَ﴾ [سورة الأنبياء/ الآية47].
إنَّ القرآن الكريم علَّمنا ألَّا نغترَّ بما حصَّلناه من علومٍ ومعارفَ، وبيَّن عاقبة الغرور في قوله –تعالى-: ﴿إِنَّمَا مَثَـلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [سورة يونس/ الآية24]، وعندما ينسى الإنسان حقيقةً مؤدَّاها أنَّ علمه ليس ذاتيًّا فيه أو من عنديَّاته، وأنَّه مكتسَبٌ من فيوضات الله عليه، فقد يسخِّر العلم في الإضرار بكون الله الَّذي خلقه على هيئة الصَّلاح، وأمره أن يزيده صلاحًا بالإعمار، لا أن تتطرَّق يده إليه بالإفساد، وحينها تضرع الأكفُّ وتلهج الألسنة، مستعيذةً بالله من قلبٍ لا يخشع، وعلمٍ لا ينفع، ودعاءٍ لا يُسمع.
ومن لم يقيِّد نعم الله بالشُّكر حُرمها، ومن بارز الله بنعمه سُلبها، يقول –تعالى-: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَـلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَـفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [سورة النَّحل/ الآية112]، وقد خرج علينا من فُتنوا بنعمة العلم، فسخَّروه في دمار البشريَّة، فإلى جانب التَّسليح العسكريِّ الهائل والسِّلاحيْنِ النَّوويِّ والكيماويِّ، رأينا ما يُعرف بالسِّلاح البيولوجيِّ، القائم على تخليق الكائنات الحيَّة معمليًّا، وتحوير بنيتها الجينيَّة، فتتحول إلى جراثيمَ فتَّاكةٍ وأوبئةٍ لا قِبَلَ لنا بمقاومتها، ولا نستبعد أن يكون ما نعانيه من وباءٍ سابقٍ أو حاليٍّ من جرَّاء ذلك.
لذا يجب أن ترجع الإنسانيَّة إلى إنسانيَّتها مرَّةً أخرى، ففي الوقت الَّذي يموت فيه بشرٌ بالمجاعات لأجل ما فقدوا، يموت آخرون بالتُّخمة لأجل ما بشموا، ولو تكافل هؤلاء مع أولئك لعاشوا جميعًا، ولقد أظهر الوباء العالميُّ أشكالًا مخزيةً من أجل الصِّراع على البقاء؛ كأعمال القرصنة الَّتي قامَتْ بها بعض الدُّول، فاستولَتْ على سفنٍ تحوي معدَّاتٍ طبِّـيَّةً كأجهزة تنفُّسٍ اصطناعيٍّ وكماماتٍ ومطهِّراتٍ، كانت تخصُّ دولًا أخرى، وإعلان بعض الدُّول عن عدم معالجة ذوي الاحتياجات الخاصَّة، كمرضى التَّوحُّد ومتلازمة داون؛ لتوفير العلاج للأشخاص الطَّبيعيِّين، واختيار بعض المشافى الشَّبابَ لتلقِّي العلاج، في مقابل منعه عن المسنِّين، إذا كانت الطَّاقة الاستيعابيَّة للمشفى أقلَّ من المطلوب، ووجدنا بعض فرق التَّطهير والتَّعقيم تتقاعس عن أداء دورها تجاه دور المسنِّين والعجزة، فلمَّا ذهبوا إلى إحداها وجدوهم قد ماتوا جميعًا، ووجدنا بعض الدُّول تخصُّ أبناءها بالعلاج، في مقابل منعه عن الوافدين الَّذين يعملون على أرضها، ووجدنا تجَّارًا من خساسة معدنهم قد احتكروا غذاء النَّاس ودواءهم مستغلِّين الظَّرف الاستثنائيَّ، وغير ذلك من المشاهد أكثر ممَّا يستوعبه الإحصاء، فيما يدلِّل على أنَّ غريزة البقاء فاقَتْ كلَّ فضيلةٍ، على رأسها الرَّحمة الَّتي تغلَّبَتْ عليها الأنويَّة، ولنتذكَّر أنَّه لا معايرة بالمرض ولا شماتة في الموت.
ونظرًا لإيمان علماء الإسلام بقضيَّة القضاء والقدر، فقد شهدَتِ الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة جانبًا من التَّصنيف حول الأوبئة والجوائح، ولعلَّ أشهرها كتاب “بذل الماعون في فضل الطَّاعون”، لأبي الفضل شهاب الدِّين أحمد بن عليِّ بن حجرٍ العسقلانيِّ (ت 852هـ/ 1449م)، ولم يكن الأمر قاصرًا على الطَّواعين، فقد ألَّف أبو الفضل جلال الدِّين عبد الرَّحمن بن أبي بكرٍ السُّيوطيُّ (ت 911هـ/ 1505م)، كتاب “التَّعلُّل والإطفا لنارٍ لا تُطفى”، في تسلية الآباء بفقدان الأبناء، وغيرها من المؤلَّفات الَّتي من الممكن أن تُسمَّى بـ(أدب النَّكبة)، وهي مؤلَّفاتٌ تتجلَّى فيها عظمة الشَّخصيَّة الإسلاميَّة؛ من صحَّة العقيدة في الإيمان بقضاء الله وقدره، وفهم العبادة في فقه الضَّرورة الَّتي تُـقدَّر بقدرها، وحسن الخُلُق في التَّعاوُن والتَّكافُل، وتقدير المسؤوليَّة في الأخذ بالأسباب، وغيرها ممَّا طابَتْ به النَّفس وصلح عليه الكون.
وهدي الرَّسول –صلَّى الله عليه وسلَّم- زاخرٌ بتعاليمه الشَّريفة، حيث تجلَّى مفهوم الحَجْر الصِّحِّيِّ في قوله عن الطَّاعون: “إذا سمعتم به بأرضٍ فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارًا منه” [حديثٌ متَّـفقٌ عليه]، ومنها النَّظافة الشَّخصيَّة والإجراءات الاحترازيَّة ومسافة الأمان بين السَّليم والمصاب وغيرها، وكلُّها ممَّا تَـنَادَى به (أهل الذِّكر)، كما قوله -تعالى-: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [سورة النَّحل/ الآية 43]، ونعني بهم في هذا السِّياق أهل الاختصاص في الشَّأن الصِّحِّيِّ كالأطباء ومعاونيهم، ومن تخصَّص منهم في مسألة الوبائيَّات على وجه التَّحديد، حيث تتوحَّد أهدافهم وجهودهم على صيانة النَّفس الإنسانيَّة، الَّتي أنزل الله الواحدة منها منزلة البشر أجمعين، كما في قوله –تعالى-: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [سورة المائدة/ الآية32].
إنَّ الوباء العالميَّ خيَّم بظلاله على مجالاتٍ كثيرةٍ؛ لعلَّ أهمَّها الدِّين ممَّا طرح مسائلَ فقهيَّةً من قبيل النَّوازل الَّتي تغلب عليها الضَّرورة، فنظرًا لخطورة الاجتماع البشريِّ عامَّةً، أُغلقَتْ دور العبادة خوفًا من تفشِّي العدوى بين المصلِّين، ونصَّتِ القواعد الفقهيَّة على أنَّ الإنسان مقدَّمٌ على البنيان، والسَّاجد مقدَّمٌ على المساجد، واستلزم تغيير صيغة الأذان بإضافة عبارة “ألَّا صلُّوا في بيوتكم، ألَّا صلُّوا في رحالكم”، وإن عزَّ ذلك على نفوس المؤمنين الَّذين تعلَّقَتْ قلوبهم بالمساجد، فإنَّهم يؤدُّون صلاتهم لربِّ المساجد، وعُلِّقَتْ شعائر العمرة والحجِّ حرصًا على حياة ملايين الطَّائفين والعاكفين ممَّن تَاقَتْ نفوسهم إلى بيت الله العتيق، واستحسن الفقهاء استخراج الأغنياء زكاة أموالهم لعاميْنِ قادميْنِ؛ لأنَّ ثواب استخراجها في وقت العسرة يكون أجزل، واستحثَّ بعضهم النَّاس على إخراج الصَّدقات للمتضرِّرين من الوباء، في وجوهٍ مثل: كفالة الفقراء الَّذين يعملون أعمالًا متقطِّعةً فتضرَّروا من حظر التَّجوال وأُرغموا على التزام بيوتهم، وشراء معدَّاتٍ طبِّـيَّةٍ كأجهزة التَّنفُّس الاصطناعيِّ، والحثُّ على إحياء فكرة الوقف الإسلاميِّ؛ للصَّرف منه على أوجه الخير في المشافي والمدارس، والتَّسديد عن الغارمين وتزويج المعسرين وحفر الآبار وتعبيد الطُّرق وبناء المقابر، وغيرها ممَّا عُرف في الوقف.
وأخيرًا.. فحاجتنا ماسَّةٌ إلى التَّوبة النَّصوح، والتَّوبة سفينة نجاةٍ، فسبحانه القائل: ﴿قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ﴾ [سورة الأنعام/ الآية64]، والتَّضرُّع إلى الله لاسيَّما في وقت الاضطرار، فسبحانه القائل: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ﴾ [سورة النَّمل/ الآية62]، وإعلاء شأن المصلحة العامَّة، الَّتي تدرأ الضُّرَّ عن الجميع وتعود بالنَّفع عليهم، فسبحانه القائل: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [سورة الرُّوم/ الآية41]، واليقين بأنَّ الوباء ليس انتقامًا من الله، فسبحانه أبرُّ بالعبد من أمِّه وأبيه، وإنَّما هو اختبارٌ من الله لخلقه والتَّذكير بآياته، حتَّى صارَتِ العافية منتهى أمانيهم، فسبحانه القائل: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ* لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ [سورة الحاقَّة/ الآيتان11- 12].
فاللَّهمَّ.. يا قيُّوم في ملككَ؛ لأنَّكَ قائمٌ بذاتكَ لم يُوجِدْكَ أحدٌ، ويا قيُّوم على خلقكَ؛ لأنَّكَ قائمٌ على تدبير شؤونهم، فإيجادهم من العدم وإمدادهم بالنِّعم، من فيض اسمكَ القيُّوم، نسألكَ ألَّا تسلِّط على أبداننا أمراضًا تنهزم الأبدان تحت وطأتها، ونسألكَ العفو والعافية والمعافاة، في الدِّين والدُّنيا والآخرة.♦