أعجبتني إحدى الرسائل المصورة تصور النجاح بالجبل الجليدي، فالذي يظهر للعيان ولمرأى الناس تلك الشهادات المعلقة وكأس البطولة والميداليات الذهبية، بينما ينغمس ثلثا الجبل تحت البحر العميق مما خفي عن عيونهم: تلك الليالي التي مرت بغير نوم، والدموع التي انسكبت في طريق الصعود، والمثابرة في تحمل الصعاب، والدروس التي حملت مرحلة التغيير نحو النضج أو اكتساب الخبرات، وخيبات الأمل المتكررة التي تم تجاوزها لتحقيق الأهداف، والمصاريف المادية والمعنوية التي تم بذلها على حساب الراحة الشخصية..!!
من المؤكد أن النجاح والتفوق والعلم والتطور لا يُقَدَّمُ للمرء على طبق من ذهب..لا تحسب المجد تمراً أنت آكله، لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا.. والمحزن بحق، ذاك التأخر الملحوظ في حال أمتنا المعاصر، والذي لايقل قسوة في مشهده عن السطحية في نمط التفكير الأحادي الضيق عند الكثيرين، والمفتقر للحكمة وأدوات الوعي، وما يحويه من تناقض يفكك أسس الهوية الذاتية، جراء التقاعس عن التقدم أولاً، والعناد في التصلب للآراء بشخصنتها تارة أو بضعف مواجهة الحقائق تارة أخرى.. !!
تخيل معي أيها القارئ الكريم، كيف لحال المجتمعات وقد تسلل إليها مثل هذا الفايروس الخطير، وكيف للتفكير السطحي والأحادي الضيق إذا انطبع على الدين، والتربية، والتعليم، والسياسة، والإعلام، كيف سيكون حال المجتمعات..؟ صدقوني أنه أخطر من الكورونا..!! إننا مضطرون لافتراض هذه الحالة على الأقل، وإن لم تصل بعد للاستيلاء الكامل على جسد الأمة وفكرها وثقافتها وهويتها.. أو أنها لم تلتهم الأخضر واليابس بعد، في محاولة لدق ناقوس الخطر، فكما أن الوقاية خير من العلاج، وأن غسل اليدين بالصابون مدة عشرين ثانية وعدم المصافحة والتباعد الاجتماعي صار أولوية للوقاية من الكورونا، فإن غسل الفكر من ملوثات السطحية والأحادية، وتجنب مداخل الجهل والرجعية والتخاذل بات له أقصى الأولوية..
النجاح له ثمن، والتفوق له ثمن، والتقدم في الحضارات له ثمن، والثبات على الهوية له ثمن، وعندما يفقد الإنسان قدرته على الإنتاج والتفكير وعلى استعمال أدوات الوعي، فإنه حتماً سيفقد بوصلة التحديد الذاتي والتقييم المعرفي، وسيكون فريسة للانفصال عن الواقع وتراكمات من الفشل تؤدي به إلى الموت السريري : {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ۖ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:21].
إن فلسفة الحياة أعمق بكثير من مجرد توجيه السلوك نحو البقاء، إنها يا سادة الانتماء للإنسانية في بعدها الثالث، ومنهجها العميق البعيد عن الأنانية، والغدر، وقلة الوفاء، والحقد، والتنافس غير الشريف، والشخصنة وإقصاء الآخر، لعلنا تعبنا من عدّ الأموات من الكورونا، ولكن أليس من الأفضل أن نعد الأحياء لا الأموات، وأن نستثمر ما تبقى من طاقة العقل والفكر ضمن محركات الوعي وأدواته، بعيداً عن شعورنا الدائم أننا نعيش هزيمة فكرية، بسبب العين التي ترصدنا..!! وأننا دائماً (محسودون) ونحتاج إلى رقية ..!!
ولعل قليلاً من تناغم الظاهر والباطن -كما يقول الدكتور مصطفى محمود رحمه الله- بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان والآخر، وبين الإنسان والله، حتماً سيغير من طريقة التفكير ويغير من قواعد اللعبة..!!