مقالي اليوم مقتبس من أحد تجاربي الجميلة التي عشتها في ماليزيا وهي “تعليم أطفال ماليزين اللغة العربية”. في الحقيقة من الصعب أن تعلم اللغة العربية وأنت لاتملك خبرات تعليم للأطفال، ولا لغير الناطقين بها. في بداية عملي معهم كانت تلك أحد أهم العوائق التي واجهتني معهم كوني غير متخصصة. ولكن ومع استمرار إلحاح صديقتي قررت قبول المهمة.
في بداية عملي ومع الأيام الأولي أدركت أحد الحقائق الرائعة في التعامل مع الأطفال، وهي أن الأطفال قد لايحتاجون إلي لغة للتواصل، فالتواصل معهم له أشكال عدة. وإن الأطفال أكثر حساسية للمشاعر والأفعال عن الأقوال، وأن باستطاعتهم لمس مشاعرك الحانية والتقاط أفعالك المحبة لهم بدون ولا كلمة. فالكلمات لم تكن في حقيقتها هي الأصل معهم، ولكن شعورهم تجاهك بالحب كان هو صاحب الأثر الأعظم.
في بداية مهمتي معهم أدركت أن الطفل يتأثر بشدة بالتواصل الجسدي. فيكفيه لمسة حانية طيبة واستقبال حافل بقدومه صباحاً، مع بعض الأماني الطيبة في نهاية اليوم باللقاء غداً. كان لدى الأطفال قدرتهم الخاصة لتفسير الكلمات. فالكلمات لديهم يمكن فهمها في السياق وقد لاتحتاج إلي لغة أخري لترجمتها. أحياناً مع قليل من الصور واستخدام لغة الإشارة يصبح الأمر كافياً جداً لتوصيل المعلومة. لكن الكلمات المعبرة عن المشاعر مثل “أنا احبك” “أنت بطلي” “افتقدتك أمس” في الحقيقة لم تحتاج إلي إشارات أو صور للتعبير. كانت المشاعر الصادرة مع الكلمات كافية جداً لأن يفهم الطفل ما تحتويه العبارة. بل إن قدرته علي تعلم هذه الكلمات فاقت في سرعتها وجودتها قدرته علي تعلم المعلومات المكتوبة في الكتب وعلي لوائح الدراسة.
في أحد الأيام وبعد شهر من بداية مهمتي معهم قابلتني أحد الأمهات في الصباح قائلة إن ابنها أمس كان يلعب وارتطمت قدمة في أحد الحوائط، فأخذ يتأوه من الألم. لكن الغريب أنه فعل ذلك كما فعلت أنا لأشرح لهم معني كلمة “ألم”. فلقد استخدم أسلوب مختلف في التعبير عن المستخدم في المجتمع الماليزي. الأم كانت تحكي وهي تضحك ثم قالت لي إن الطفل يحبك فاستبدل ما تعلمه في ثقافتة وتأثر بما رأى منك مرة واحدة. الأغرب أن هذا الفعل ظهر بشكل تلقائي وغير مرتب له وكأنه مخزون في تصرفاته اللاواعية.
لم يقتصر الأمرعلي ذلك، بل امتد لأحد تجاربي مع أحد أطفال التوحد. في نفس المكان كان يجلس بالقرب منا “قوي” وهو طفل لأب وأم ماليزيين، ولا يتكلم إلا اللغة الماليزية. ولكن انتقال المشاعر أيضاً كان مؤثراً علي تطوره في مراحل العلاج بشكل كبير. أظهر قوي في غضون أسبوعين تطوراً ملحوظ في التعرف علي الأطفال ثم اهتمامه بما نفعله خلال الدرس. الأغرب من ذلك هو أحد المعلومات التي قدمتها لي صديقتي المتخصصة في التعامل مع أطفال التوحد وهي أن طفل التوحد ليس بإمكانه التحدث عدة لغات. لكن هذا الطفل في غضون أسابيع قليلة كان قادراً علي فهم ما أقصده من كلمات سواء بالعربية أو الإنجليزية. أكدت صديقتي أن المؤثر الأول والأخير في تطور أطفال التوحد من تجربتها هو الحب وأنهم قادرون وبشدة علي لمس الحب والمشاعر بدون كلمات. في الحقيقة تجربتي في تعليم الأطفال لم تكن طويلة ولكنها علي “تأثير الحب علي سرعة وجودة التعليم “. فالحقيقة كلمة أن الحب يصنع المعجزات صادقة جداً.