يبدو أننا نواجه جائحتين، الأولى هي جائحة كورونا والثانية هي الجهل الذي يعد الإصابة بهذا الفايروس وصمة عار وسبة في جبين المصاب وعائلته، وهذا الوصم يدفع الكثير من الناس إلى إخفاء إصابتهم، والامتناع عن قبول الحجر الصحي وطلب الرعاية الصحية والقيام بالفحوصات المختبرية، مما يزيد من انتشار الفيروس وتفشيه، ولم يعد الخوف من الإصابة مقلقاً لدى البعض، بقدر الخوف من مواجهة الرفض العائلي والنظرة المجتمعية للمصاب أو لعائلته، والتعامل مع الإصابة وكأنها عيباً أو فضيحة وأن المصاب شخص موبوء يجب الابتعاد عنه، وربما تحميله المسؤولية وتوبيخه مجتمعياً على إصابة لم تكن بيده، وتستمر هذه النظرة حتى بعد تماثل المصاب للشفاء.
ويبدو أن العقل العربي على الرغم من مظاهر الحداثة، إلا أنه لم يكن مستقلاً بذاته ولم يستطع التحرر كلياً من الإرث القبلي الذي يخفي في بعض جوانبه انحداراً فكرياً وثقافياً مرعباً، ومنها الوصمة الاجتماعية التي تجرد الفرد من أهلية القبول الاجتماعي الكامل، وتنسب إليه الأخطاء والآثام وإن لم يكن مسؤولا عنها، فنرى المصابين بفايروس كورونا يوشمون بالعار وينبذون اجتماعيا، ولم تقتصر حالة الرفض المجتمعي على المصابين بالفيروس أو المتوفين وعائلاتهم، بل امتدت أيضاً لتشمل الأطباء والممرضين العاملين على رعاية مرضى كورونا،وقد تناسى هؤلاء أن المرض لم يكن في يوم من الأيام عيباً أو وصمة اجتماعية وان الفيروسات لا تستهدف مجموعات عرقية أو اثنية دون غيرها فكلنا معرضون للإصابة.
إن لهذه الوصمة والرفض المجتمعي نتائج صحية ونفسية وأخلاقية مفرطة في التأثير، فهي مسؤولة عن زرع الاكتئاب والقلق لدى المصاب أو عائلته والشعور بالعجز والوحدة والانطواء، فضلاً عن انهيار الضابط الأخلاقي والثقة بالنفس،ومن ثَم الإصابة بالعجز وعدم القدرة على العمل والإنتاج، وربما تكون هذه الآثارأشد خطورة من المرض نفسه، فضلاً عن دورها في تخفيض مستوى المناعة لدى الفرد، فقد أثبتت الدراسات العلاقة الوثيقة بين النواحي النفسية والنواحي الجسدية، فالأفكار والمشاعر السلبية تضعف جهاز المناعة ومقاومة الجسم، كما أن الأفكار والمشاعر الإيجابية تسهم في تقوية هذا الجهاز.
إن الوحدة والعزلة الاجتماعية التي يفرضها المجتمع على المصاب حتى بعد تماثله للشفاء تزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب بنسبة 29 في المئة، وخطر الإصابات السرطانية بنسبة 25 في المئة، واحتمال التراجع الوظيفي بنسبة 59 في المئة و32 في المئة من خطر الإصابة بسكتة دماغية وهناك علاقة ثابتة بين العزل الاجتماعي والاكتئاب والقلق والتفكير في الانتحار، كما أن الوحدة تسبب الإجهاد، وهي على المدى الطويل تؤدي إلى ارتفاع متكرر في هرمون كورتيزول (cortisol) وهو هرمون رئيسي مسؤول عن تنظيم مستوى الإجهاد.
والجدير ذكره أن إجراء مقارنة بسيطة بالنسبة لنظرة المجتمع بين المصابين بفايروس كورونا وفايروس الإيدز تظهر أن المجتمعات العربية تعاملت مع الإصابتين بطريقة تكاد تكون متشابهة مع فارق المقارنة،فحالة النبذ التي واجهها المصاب بالإيدز تعزى إلى كون إحدى طرائق نقل العدوى هي العلاقة الجنسية التي ترفضها المجتمعات العربية، لكن فيروس كورونا ينتقل عبر لمس الأسطح التي يستقر عليها أو عبر الهواء لمسافة أقل من متر واحد، ومن هنا فالمقارنة تفتقر لأدنى حدود العدالة.
وفي إشارة إلى التمييز الجندري تظهر أن هذه الوصمة أكثر تأثيراً وأشد حدة لدى النساء، لخصوصية المرأة في المجتمعات العربية،ومن ذلك ما شاهدناه من مقاطع فيديو لبعض الأسر العربية وهي تمنع السلطات من الكشف أو أخذ عينة من إحدى النساء، لأن مبيت المرأة خارج بيتها أمر ترفضه التقاليد والأعراف العربية.
إن هذا الفيروس لا يختلف عن الفيروسات التنفسية، وإن كان أشد حدة وأسرع انتشاراً، وهو ليس عار وسبة على الجبين، فهذه صورة ذهنية مغلوطة ومشوشة تشكلت لدى البعض، فأي إنسان معرض لأن يصاب به ويشفى منه، وإن من ينظر للمرض على أنه عار أو فضيحة لاشك أنه يفتقر إلى الوعي والثقافة، وأقل واجب يقدمه الشخص لوطنه ومجتمعه هو الإقدام على الفحص فور شعوره أو اشتباهه بالأعراض لأن المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية تحتم عليه ذلك.
ومن جانب آخر فالحكومات العربية ممثلة بمؤسساتها الصحية مطالبة بتقديم كافة أنواع الدعم النفسي والاجتماعي للمتعافين من جائحة كورونا، ويمكن على الأقل التواصل معهم والاطمئنان عليهم والوقوف على مشاكلهم، وإذا كنا نلعن كورونا لانها زرعت الرعب بين طيات حياتنا فإننا ممتنون لها لانها أهدت إلينا شيئاً من عيوبنا، وبينت لنا أن في واقعنا وعاداتنا خلل أكبر يستدعي وقفة جدية ومعالجة موضوعية.
ومع كثرة الإنتشار سيتم احتواء الفايروس ويضعف تأثيره ويختفى تدريجياً، وبالتالي فعلينا كمجتمعات عربية أن نتعلم فن إدارة الأزمات والكوارث الطبيعية، وأن نتعظ مما حدث ونتعمق في قراءة الأحداث ونتجند جميعاً لإعادة بناء مجتمع المعرفة الذي ينتصر للإنسان.