على امتداد العمر الزمني للحضارات الإنسانية، نجد أن السنوات تزداد وأنا المسافات بين الأمم تتقلص، ذلك أن الأعداد البشرية في تكاثر مستمر ممايؤدي بهم إلى استغلال المساحات لتأمين الغذاء والمسكن. كما أننا نعايش التمدد العمراني الذي وصل بنا إلى حضارة مشبعة بكل احتياجات الإنسان لدرجة التخمة، حتى أمسى الإنسان جزءا من تقنيات تلك الحضارة وأداة في ذراعالتكنولوجبا وليس العكس.
فسيرة الإنسان ومسيرته والتفكير والتدبير لا يتم إلا من خلال التقنيات التي فرضت نفسها، كعنصر أساسيّ في مركَّب الحياة العصرية الجامدة،كلّ ذلك جسّد صورة نمطية للمعيشة الإنسانية ألجأت الكبير والصغير إلى وسائل التواصل الاجتماعي هروبا من التباعد الذي فيه وقعوا وبه تأثروا وإيحاءاته يأتمرون،حتى أمست تصرفاتهم رهينة النمط المعيشي الذي تحدده تلك الوسائل.
ويبقى السؤال: هل يمكن للعالم أن يتدارك البقية الباقية من إحساس المرء بكينونته كإنسان تحكمه المشاعر ويفكر بقلبه وعقله؟. لأن النتائج التي أفرزتها حضارة التواصل عن بعد لا تتلاءم وبناء السعادة التي يتطلع إليها الإنسان طوال حياته.
والجواب: إن لم يتدارك العقلاء ويضبطون القيم والسلوكيات المتعددة التي هي رهينة لوسائل التواصل فسيجني العالم شوكا لا يمكن اقتلاعه، لإن وسائل التواصل الاجتماعي لها تأثير جسيم على الأنماط المعيشية ومن تلك الآثار التي ينبغي الحذر والتحذير منها، ما يأتي:
أولاً: الشعور بفقدان الكماليات على أنها ضرورة: فمنذ استيقاظ أحدنا حتى نهاية نهاره وليلته، حيث نبدأ بتفقد الجهاز وما يحوي من أخبار عبر التطبيقات، وإذا انقطع الإرسال يفقد الإنسان توازنه وتفكيره، ويصبح كأنه في سجن ومقيّد ولا يعرف ماذا يفعل، أو كعصفور في قفص لا يمكنه الطيران. فالنمط المعيشي حوّل وسائل التواصل الاجتماعيّ من كماليات إلى قرائن الروح والجسد، مما أفقدنا روحانيات حياة نمطية هي الأساس في وجودنا.
ثانياً: القلق والكآبة: إلى عهد قريب كنا نسمع أنّ بلاد التكنولوجيا المتقدمة ينتشر فيها الأرق والقلق، ولم نلبث مليًّا حتى وصل إلينا الداء وانتشر في جسد البلدان قاطبة، فمن خلال التواصل الاجتماعيّ تنتشر أخبارا مأساوية فيتناقلها الناس بداية من خلال المشاعر الإنسانية، ويتكرر المشهد كلّما فتحنا صفحة أو تطبيقا للتواصل الاجتماعيّ، وإذ بمجمل ما نقرأه ونسمعه مآسٍ، تحول نظرتنا إلى الحياة سوداوية لا فأل فيها، ونسلك مسالك القلق كمن سبقنا، ولكن دون محسنات معيشية ولا ترفيهات تخفف العناء الذي يتعاظم مع مرور الوقت، منذرا كارثة هيروشيمية من نوع آخر.
ثالثاً: اختلاف منابع الثقافة: فبالأمس كنا نكتب الرسائل ونبعثها أو تصلنا عبر ساعي البريد، ونتناول ثقافتنا عبر الكتاب، أما اليوم فمن خلال الأزرار نكتب ومن خلال الشاشات نقرأ، ففقدنا جماليات القلم ومنظر الكتابة عبر الأسطر الخلابة، وهذا التغيّر أثر على منبع الثقافة في الموارد والمصادر، مما أثر سلبًا على النمط المعيشي، المتأثر بالصوت والصورة وما يحملان من مؤثرات تقنية تعطي الصورة غير الحقيقية للمركب والملبس والمأكل والمشرب والأثاث وغير ذلك، مما يعود على الإنسان بنظرة مختلفة عن المألوف، فضلا عن التأثير النفسي المترتب على التمني لأمور قد لا يحوز عشر معشارها طوال حياته.
وفي الختام.. إنّ وسائل التواصل الاجتماعي أثرت على أساسيات علم الأنثروبولوجيا، فلم تعد المبادئ التي تنبني عليها دراسة الإنسان وحيته، منضبطة كما هو الحال فيما سبق. ويبقى التسارع الذي يجذبنا أو يسحبنا إلى بؤرة حوامة المحيط، يفقدنا التوازن كإنسان له مقصده في هذه الحياة الدنيا، إلى مجهول، لولا تدبير المولى جلّ شأنه لفقدت الحياة لذّتها، بل هي فقدت ذلك سوى بقية باقية مما يربطنا بإنسانيتنا ومشاعر المودة بيننا كبشر، لا كآلات لا تعرف مآلاتها.