يعيش أكثر من خمس مليارات من البشر أجواءً تاريخية قاتمة منذ مطلع العام الحالي 2020 بعد انتشار جائحة COVID-19 المميت كالنار في الهشيم ، فدنت أعداد المصابين به من مليوني إصابة حول العالم تشافى منهم قرابة نصف مليون وحصد قرابة 130 ألف في كل دول العالم – نصفهم في خمسة دول هي اميركا وأسبانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا، وكان الوباء قد انتشر في كافة دول العالم عدا 17 دولة لم تشهد ظهوره وهي: 4 دول آسيوية و3 أفريقية، إضافة إلى 10 دول في أوقيانوسيا – في جزر المحيط الهادئ – فهل العالم الذي نسي الله كان يحتاج إلى طاقة خفية ترعب البشرية وتحصد الأرواح فتعيدهم إلى ذكره ، فر المرء من أمه وأبيه وصاحبته وبنيه وفصيلته التي تؤويه، فخلت المساجد و الشوارع من الناس وأصبحت كعبة المسلمين بلا طواف، وبات الملايين حول العالم يتساءلون هل هذا الوباء إنذار من الله أم مؤامرة أم يكون بداية لنهاية العالم ؟ وللإجابة عن هذا التساؤل نتناول في هذا التحليل خمسة محاور أراها مهمة في هذا السياق .
أولاً : الاستفادة من التاريخ
هناك تداعيات اقتصادية واجتماعية وسياسية ستلقي بظلالها على الساحة الدولية لتجعل العالم بعد 2020 كورونا مغاير تماما لما قبله ، ما يتطلب من الجميع حكومات وشعوب التأهب لذلك العالم الجديد . والواضح من المؤشرات الحالية الواردة من الدول العظمى خاصة بعد اجتماع دول العشرين G20 ًأن انهياراً قادما سيطال اقتصاديات دول العالم ، وهذا تاريخياً يؤدي إلى انهيارات اجتماعية وسياسية في العديد من دول العالم ، فانهيار الاقتصاد يؤدي إلى انهيار البنية الاجتماعية للدول. فالتكوين الطبيعي لأي مجتمع وجود طبقة وسطى تشكل من 60 إلى 70 % من المجتمع ، تليها طبقة الفقراء من 10 إلى 20 % ثم طبقة الأثرياء من 5 إلى 15 % ، لكن ما يحدث عند انهيار الاقتصاد أن الطبقة الوسطى تتحول إلى طبقة فقيرة جديدة، والفقراء الحقيقيون يصبحون أكثر بؤسًا وشقاءً، فيبدأ شعورهم بالانتماء يتلاشى، في الوقت ذاته تزداد ثروات الأغنياء بشكل فاحش ، فينتج عن اضطراب الهرم الاجتماعي تزايد الشعور بانعدام الثقة بين طبقات الشعب، وتنكسر الروابط الاجتماعية بين القطر الواحد ، ويتلاشى الشعور بالسعادة والأمان ويحل محله شعور بالشك والحقد، وتترسخ مبادئ مغلوطة ، لذلك لابد أن تسعى الحكومات والشعوب إلى الاستفادة من التاريخ وبناء حوائط صد قوية لحصار تلك الجائحة لتقليل خسائر الانهيار الاقتصادي المتوقع وبالتالي تقويض أى انهيار في السلم المجتمعي .
ثانياً : التباعد الاجتماعي
ومن يقرأ التاريخ يعرف أنه يعيد انتاج ذاته بعد كل قرن من الزمان وربما يتلمس بعضنا ذلك عندما نكتشف أن الأحداث التاريخية ما هي إلا دوائر كبيرة تدور فيها الشعوب لتكرر المرور على نفس الظروف أو غيرها مشابهة لها ، ورغم ذلك، فإننا في أغلب الأحوال نتجاهل الدروس المستفادة من تكرار تلك الدروس التاريخية ، فعلى سبيل المثال يذكر التاريخ أن عام 1918 عندما أوشكت الحرب العالمية الأولى على الانتهاء ، اجتاح العالم واحد من أشد الأوبئة فتكاً في تاريخ البشرية، عُرف باسم “الإنفلونزا الإسبانية” أصاب أكثر من ربع سكان العالم، وحصد أرواح قرابة 100 مليون شخص ، ونتج عن ذلك أن تغيرت أنماط الحياة في العالم كله وأصبح ما بعد عام 1918 مغاير تماماً لما قبله . والآن وبعد مرور 100 عام على تلك الجائحة ، يواجه العالم وباء آخر سببه فيروس “كورونا المستجد”، ورغم اختلاف الفيروسين، إلا أنه لابد من قراءة التاريخ بشكل معمق للاستفادة من أحداثه السابقة في تقليل خسائر الجائحة الحالية ، فالدول التي لم تطبق التباعد الاجتماعي والتوقف عن الأنشطة الجماعية آنذاك عانت أكثر من غيرها من الأزمة بينما تضاءلت أعداد المصابين والوفيات في الدول التي طبقت الإجراءات الاحترازية ، لذلك فبما أن التباعد الاجتماعي لعب دوراً كبيراً في الحد من انتشار الوباء في عام 1918، فإنه يبقى واحداً من أفضل الطرق لمكافحة الجوائح ما يفرض علينا الالتزام بقواعد وإجراءات الجهات الصحية المعنية بشكل صارم لتقليل حجم الخسائر البشرية وتقويض الوباء .
ثالثاً : دور الدول والشعوب
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى نقطتين الأولى : أكد بحث أجرته لورين أنسيل ، بجامعة تكساس، أن 10% من الحالات أصيبت بالفيروس قبل ظهور الأعراض وبالتالي يصاب الآلآف من دون علمهم أنهم مصابون فلا يقومون بإجراءات العزل الذاتي ، وهذا الأمر يكمن علاجه في أمرين الأول على الحكومات أن تكافح امتداد الوباء عبر توسيع نطاق الفحص للمخالطين حتى يتم تضييق الدائرة على الوباء ، والثاني عبر الناس الذين بات لزاماً عليهم مراعاة قواعد التباعد الاجتماعي التي ستحول من دون نشر المرض بينهم من دون قصد.
وقد ثبت بالأدلة أن البقاء بالمنزل وترك مسافة آمنة عند التعامل مع الآخرين يسهمان في إبطاء انتشار الفيروس. إذ أشار بحث أجري عن الإصابات في ووهان، إلى أن تطبيق تدابير وقائية صارمة واسعة النطاق أدى إلى تخفيض رقم التكاثر الأساسي في المدينة من 2.35 إلى واحد فقط، وهذا يعني أن حالات الإصابة لن ترتفع ما دام كل مصاب سينقل العدوى لشخص واحد فقط.
وخلصت دراسات علمية إلى أن سرعة اتخاذ اجراءات العزل والحجر الصحي العام في بؤرة المرض تسهم في الحد من انتشاره. وتهدف سياسة التباعد الاجتماعي إلى تعطيل انتشار الفيروس وإطالة المدة التي ينتقل فيها من شخص لآخر لتأخيرالوصول إلى ذروة تفشي الفيروس إلى أبعد وقت ممكن.
رابعاً : الإنذار والمؤامرة
تفرض علينا المعطيات الدولية الأخيرة العديد من التساؤلات ، أذكر منها سؤالين ، الأول: حول ما إن كان هذا الوباء إنذار من الله – سبحانه وتعالى – للبشر للعودة إليه وحفظه بعد أن طغى الفساد في البر والبحر وأصبح الظلم عنواناً رئيساً يعم السواد الأعظم من هذه البسيطة ، وأتفق مع هذه النظرية رغم أن العودة إلى الله واجبة في كل وقت وحين ، لكني أراها باتت ضرورة ملحة بعد أن زاد طغيان البشر وظن بعضهم أنه بوسعه التحكم في كل شيء ، فكان هذا الوباء – وإن صحت التحليلات المشيرة إلى كونه مؤامرة بيولوجية – كان رسالة من الله – سبحانه وتعالى – للبشر كافة ، ولهذا الصنف من الظالمين العتاة خاصة ، مفادها أن الدنيا ما بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيفما يشاء ، وأن النصر مع العودة إلى الله وحسن التوكل عليه وحفظه – احفظ الله يحفظك – إذن هو إنذار في ثوب رسالة علينا فهم مضامينها جيداً .
أما السؤال الثاني : فيتعلق بصحة نظرية المؤامرة الدولية في هذا الوباء من عدمه ، وهنا لا يمكن استبعاد الفرضية المنتشرة بأن التفشي الحالي للوباء يمكن أن يكون سلاحًا بيولوجيًا محتملاً، فمع إعلان الصين يوم 19 مارس قدرتها على التحكم في انتشار الوباء واكتشافها لقاح مضاد ، ومع إعلان مماثل من الولايات المتحدة الأمريكية يوم 21 مارس يحمل معنى قريب ، نجد أنفسنا تميل الى أن التهويل الممارس بواسطة التضليل الإعلامي الأميركي ومعه زبانيته في الدول المنبطحة ، والفزع من الوباء كان جزء من هذه الحرب الإعلامية وأمر مفتعل من القوى الاقتصادية العظمى في حرب ضروس بينها ، حرب على السيادة الاقتصادية ومافيا تجارة الأدوية في تناطح بيوكيماوي وبيولوجي وتنافس غير شريف بين أميركا والصين ، وهذه الحرب القذرة بين العمالقة لا يعنيها أن يكون وقودها دول العالم الثالث – وهذا الرأي ذهب إليه العديد من المفكرين مؤخراً وأميل إلى صحته لاسيما بعد إعلان الصين قدرتها على التحكم في الوباء وتقلص أعداد المصابين .
ومعنى نجاح هذه القوى في تصدير الهلع إلى الناس جميعاً على نحو أسهم في انهيار البورصات العالمية وهبوط أسعار النفط إلى نسب قياسية ، أن حالة الجدل حول نظرية المؤامرة ستتوقف عند حد التسليم بها. وبهذا يكون وباء كورونا فيروس حقيقي غزته مؤامرة أميركية صينية كبرى والأمر ينطوي على إنذار من الله – سبحانه وتعالى – وذهب البعض أنه بداية لنهاية العالم ، وهو أمر يحتاج لتفسير كثير من النظريات الكونية لتبقى الساعة من الغيبيات الخمس التي لا يعلمها إلا الله .والمتبنون لهذا الرأي يشيرون إلى أن العالم الذي نسي الله كان يحتاج إلى طاقة خفية تعيدهم إلى ذكره ، فكان كورونا الذي بات يحصد الأرواح ويرعب البشرية متجاوزاً الحدود، يرفض التعقيم، ويعزل المصابين به بشكل يدعونا للتحسر على حال الدنيا ، ومن أهوال يوم القيامة أن يفر المرء من أمه وأبيه وصاحبته وبنيه وفصيلته التي تؤويه، فيلعب اليوم كورونا “دور القيامة الصغرى”، حيث مساجد و شوارع خالية، وكعبة بلا طواف، وحدائق تخلو من ابتسامات الأطفال، وبشر جاثمين في بيوتهم يخشون حتى التنفس، ترهبهم العطسة وتبعثرهم كحة عابرة .
خامساً : أرقام ودلالات
وبعد استعراضنا للسؤالين نصل إلى أحد مضامين تلك المحنة التي أرى فيها من الله منحة للمسلمين ، علينا الوقوف أمامها ونجدها في طيات أرقام المصابين جراء هذا الوباء حول العالم ، وإن كانت مرشحة للتنامي والتضاعف بشكل مؤكد في الأسابيع المقبلة نهاية أبريل – وأظن هذه الأرقام تحمل مدلولات ما فأميركا تتصدر العالم بعد أن تجاوزت نصف مليون مصاب و20 ألف وفاة بينما تليها أسبانيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا والصين ثم بريطانيا وجميعها من الدول العظمى ، كما أن أرقام المنطقة العربية أيضاً لها مدلولات، فالسعودية والإمارات تتصدرا العرب بأربعة آلآف إصابة تليها سبعة دول عامرة بأكثر من ألف إصابة وهي على الترتيب قطر فمصر والجزائر والمغرب والعراق والكويت والبحرين ، وسنتحدث في مقال قادم عن تفسير لتلك المدلولات .
والدول الإسلامية الذي انتشر فيها الوباء أمس واليوم وغداً وأي وقت قادم حتى نهاية الأزمة لن تصل – إن شاء الله – لم تبلغ أعداد المصابين بالوباء فيها مجتمعة ربع أعداد المصابين في الدول غير الإسلامية ، وهو ما يشير إلى منحة من الله إلى أرض يذكر فيها اسمه تمتلئ بآلآف العابدين المخلصين وأصحاب القلوب الرحيمة التي تمتد بأعمال البر والإنسانية ، فحقاً صنائع المعروف تقي مصارع السوء .
وفي ختام التحليل تبقى كلمة….
أوصي نفسي والقراء الأعزاء بحتمية العودة إلى الله – سبحانه وتعالى – لنتمكن من تحويل هذه المحنة إلى منحة تعيدنا إلى حفظ الله في أنفسنا وأهلنا وكل من حولنا ، كما لابد لنا من تثقيف عائلاتنا بفقه التكيف مع الواقع واستثمار أوقات البقاء في المنزل في وضع خطة تنطوي على بلوغ العديد من الأهداف الإيجابية.
كما لابد في هذا المقام من الإشادة بدولة الكويت التي كانت في طليعة دول العالم من حيث دقة وصحة الإجراءات الحكومية في التعامل مع الأزمة ، وأنصح الجميع بعدم الإنجرار للشائعات المغرضة واستقاء المعلومات من مصادرها الرسمية ، وضرورة التلاحم كل أسفل الكيان الذي ينطوي تحته ، واتباع تعليمات الجهات المختصة في هذا الصدد والبقاء في المنازل حرصاً على أنفسنا وغيرنا وصوناً للبيئة التي نعيش فيها فذاك واجب شرعي وقيمة أخلاقية وصيانة للنفس التي هي من الكليات الخمس التي أمرنا بها الله بحفظها ، وأسأل الله العفو والعافية للجميع، وتفاءلوا بالخير تجدوه ، فما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال ، وإن مع العسر يسراً . وأرجو أن تهب رياح طيبة في شهر مايو المقبل مع تباشير شهر رمضان الكريم لتشكل بداية الانفراج – ان شاء الله –