مرت خمسة أسابيع على بدء العام الجديد ، وإنَّ من حقِ هذا العام علي كل مسلمٍ أن يستعرض عامهُ الذي مضي؛ فما كان فيه من خيرٍ عمِلهُ فليحمدِ الله، وما كان غير ذلك برِأَ إلي الله منهُ، وأقْلَعَ عنهُ، وندِمَ عليهِ، وأن يَستقبِلَ العام الجديد بنفسٍ كلها عزيمة واستعداد لتدارك ما فات، والانتفاع بما هو آت. قال تعالي:(فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ “. عن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ حُجَيْرَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ t قال: «إِنَّكُم فِي مَمَرِّ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِي آجَالٍ مَنْقُوْصَةٍ، وَأَعْمَالٍ مَحْفُوْظَةٍ، وَالمَوْتُ يَأْتِي بَغْتَةً، مَنْ زَرَعَ خَيْراً يُوْشِكُ أَنْ يَحْصُدَ رَغْبَةً، وَمَنْ زَرَعَ شَرّاً يُوْشِكُ أَنْ يَحْصُدَ نَدَامَةً، وَلكُلِّ زَارِعٍ مِثْلُ مَا زَرَعَ، لاَ يُسْبَقُ بَطِيْءٌ بِحَظِّهِ، وَلاَ يُدْرِكُ حَرِيْصٌ مَا لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ، فَمَنْ أُعْطِيَ خَيْراً فَاللهُ أَعْطَاهُ، وَمَنْ وُقِيَ شَرّاً فَاللهُ وَقَاهُ، المُتَّقُوْنَ سَادَةٌ، وَالفُقَهَاءُ قَادَةٌ، وَمُجَالَسَتُهُم زِيَادَةٌ “. وعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زُبَيْدٍ الْإِيَامِيِّ قال: «لَيْسَ مِنْ يَوْمٍ إِلَّا وَهُوَ يُنَادِي: أَنَا يَوْمٌ جَدِيدٌ، وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ. ابْنَ آدَمَ إِنِّي لَمْ أَقَرَّ بِكَ أَبَدًا، فَاتَّقِ اللَّهَ، وَاعْمَلْ فِيَّ خَيْرًا، فَإِذَا هُوَ أَمْسَى قَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا أَبَدًا”. وعن موسى الجهني قال: «مَا مِنْ لَيْلَةٍ إِلَّا تَقُولُ: ابْنَ آدَمَ، أَحْدِثْ فِيَّ خَيْرًا فَإِنِّي لَنْ أَعُودَ إِلَيْكَ”.
وعَنْ بَدْرِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ الْحُوَيْرِثِ بْنِ نَصْرٍ الْعَامِرِيِّ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، قَالَ: «مَا مَضَى يَوْمٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَقُولُ عِنْدَ مُضِيِّهِ: أَيُّهَا النَّاسُ أَنَا الَّذِي قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ جَدِيدًا، وَقَدْ حَانَ مِنِّي تَصَرُّمٌ، فَلَا يَسْتَطِيعُ مُحْسِنٌ أَنْ يَزْدَادَ فِيَّ إِحْسَانًا، وَلَا يَسْتَطِيعُ مُسِيءٌ أَسَاءَ أَنْ يَسْتَعْتِبَ فِيَّ مَنْ أَسَاءَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْنِي الْيَوْمَ الْعَقِيمَ، ثُمَّ يَذْهَبُ “. قَالَ بَدْرٌ: «وَبَلَغَنِي أَنَّ اللَّيْلَ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ». وقال عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الدَّهْرُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ: أَمْسِ خَلَتْ عِظَتُهُ، وَالْيَوْمُ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ لَكَ، وَغَدًا لَا تَدْرِي مَا يَكُونُ». وعَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ، سَأَلَ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ عَنِ الدُّنْيَا، قَالَ: «مِيرَاثٌ» . قَالَ: وَالْأَيَّامُ؟ قَالَ: دُوَلٌ قَالَ: وَالدَّهْرُ؟ قَالَ: «أَطْبَاقٌ، وَالْمَوْتُ بِكُلِّ سَبِيلٍ، فَلْيَحْذَرِ الْعَزِيزُ الذُّلَّ، وَالْغَنِيُّ الْفَقْرَ، فَكَمْ مِنْ عَزِيزٍ قَدْ ذَلَّ، وَكَمْ مِنْ غَنِيٍّ قَدِ افْتَقَرَ». وعن زَيْدُ بْنُ عَوْفٍ قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ، يَقُولُ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحِكَمِ: «الْأَيَّامُ ثَلَاثَةٌ , فَأَمْسِ حَكِيمٌ مُؤَدِّبٌ أَبْقَى فِيكَ مَوْعِظَةً , وَتَرَكَ فِيكَ عِبْرَةً , وَالْيَوْمُ ضَيْفٌ كَانَ عَنْكَ طَوِيلَ الْغَيْبَةِ , وَهُوَ عَنْكَ سَرِيعُ الظَّعْنِ , وَغَدًا لَا يَدْرِي مَنْ صَاحِبُهُ». وعن الْحسن البصري قَالَ: كَانَ يُقَال: «ابْن آدم عف عَن محارم الله تكن عابداً وَارْضَ بِمَا قسم الله لَك تكن غَنِيا وَأحسن مجاورة من جاورك من النَّاس تكن مُسلما وَصَاحب النَّاس بِالَّذِي تحب أَن يصاحبوك بِهِ تكن عدلا وَإِيَّاك وَكَثْرَة الضحك فَإِن كَثْرَة الضحك تميت الْقلب، إِنَّه قد كَانَ يديكم أَقوام يجمعُونَ كثيرا ويبنون شَدِيدا ويأملون بَعيدا فَأَيْنَ هم أصبح جمعهم بوراً وَأصْبح عَمَلهم غرُورًا وأصبحت مساكنهم قبوراً. ابْن آدم إِنَّك مُرْتَهن بعملك وَأَنت على أَجلك معروض على رَبك فَخذ مِمَّا فِي يَديك لما بَين يَديك عِنْد الْمَوْت يَأْتِيك من الْخَيْر. يَا ابْن آدم طأ الأَرْض بقدمك فَإِنَّهَا عَن قَلِيل قبرك إِنَّك لم تزل فِي هدم عمرك مُنْذُ سَقَطت من بطن أمك ُ”
عزيزي القارئ : إنما هذه وقفة أذكر بها نفسي واياكم لوداع عام كامل من أعمارنا أودعناه أعمالاً لا ندري ما الله صانع بنا حين نلقاه ، قد طُويت صفحاتها وأُغلِقت ولن تُفتح إلا في يوم اللقاء الأكبر نسأل الله اللطف والمغفرة ، وإن دمعةٌ محبوسةٌ في العين، وأسىً يملأ القلب تجاه العام الفائت). وكما قال ابن الجوزي موصياً ولده قائلًأ له: «اعلَم يا بُني أنَّ الملَكيْن يحصِيَان ألفَاظَك ونَظَراتَك، وأنَّ أنفَاس الحي خُطَاهُ إلى أجلِهِ، ومقدار اللبثِ في القُبُورِ طَوِيلْ، والعذاب على موافقةِ الهَوى وبيلْ، فأين لَذة الأمسِ؟ رحلَّت وأبقَت ندمًا، وأينَ شَهوة النَّفسِ؟ كم نكست رأسًا وأزلَّت قدمًا!
وما سَعِد من سَعِد إلَّا بخِلاَف هَواه، ولا شَقي من شَقي إلَّا بإيثارِ دُنيَاه. فاعْتبِر بمن مضَى من الملُوكِ والزُّهادِ، أين لَذة هؤلاء وأين تعَب أُولئك؟ بقىَ الثوابُ الجزيل والذكرُ الجميل للصَّالحين، والعقابُ الوبيلْ للعاصِين
وكأنَّ ما جاع مَن جاع ، ولا شَبِع مَن شَبِع، فانتبه يا بُنى لنفسك، وانْدم علَى ما مضَى من تفرِيطك، واجتهدْ لتلحق بركبِ الكاملِين مادام في الوقت سَعة، واسقِ غُصنك مادامتْ فيه رُطوبة، واذكُر ساعتَك التي ضَاعت فكفَى بها عِظة، واعلَم يا بُنى أنَّ الأيـَّام تبسط ساعاتْ، والساعات تبسط أنفاسًا، وكلْ نَفَس خَزانة، فاحذَرْ أن يذْهب نفسٌ بغيرِ شيء فتَرى في، القيامَةِ خَزانة فارغَة فتنْدَمْ . ولنا أن نتساءل : هل مرور الأعوام يزيد في الأعمار أم يُنقِص منها ؟؟.. هل عامك المنصرم زادك من الله خطوة أم أبعدك عنه خطوات ؟! .
ماذا حقَّقت فيه من إنجازات تفرح بها عند مولاك .. كم مرة ختمت فيه القرآن ؟ . هل حافظت فيه على السنن الرواتب والوتر ؟ . هل قيَّدت فيه جوارحك بقيدٍ من الشرع متين ، أم أطلقت لها العنان.. فالعين ترى ما تشاء ، والأذن تسمع ما تشاء ، واللسان يقول ما يشاء ، والفرج يفعل ما يشاء.!! كم من أموالك أخرجت فيه في سبيل الله؟ كم إنسان اهتدى على يديك ؟.. ماذا قدَّمت فيه للأمة ؟ أمْ أنَّ همومك وطموحاتك لم تتجاوز محيط ذاتك بعد ؟ . وهل : لو قُبِضَت روحك في العام المنصرم هل يسرُّك أن تلقي الله وأنت علي هذا الحال ؟.. وماذا أنت فاعل في عامك هذا ؟ هل سيكون عام صلاحٍ عظيمٍ لذاتك ؟؟ أم كالعيسِ في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول ؟ كم ستجعل للقرآن من حظٍ في حياتك ؟ هل ستجعل الشرع حاكماً مراقباً لجوارحك فلا تفعل إلا ما يرضيه ، أم سيبقى الحبل مرخى لها كما تشاء ؟ كيف ستكون طموحاتك وهمومك : في ازدياد أم .. ؟ ماذا سَتُقدِّمُ لأمتك ؟ أم ستكون من سقط المتاع – وما أكثرهم – الذين لا هدف لهم ؟
وأخيراً .. بِمَ تودُّ أن تُذكَرَ بعد موتِك ؟ فاعمل ليوم مصرعك !! فالناس شهود الله في أرضه .
إنـا لنفرح بالأيـام نقطعهـا … وكل يوم يمضي يُدني من الأجل … فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدًا … فإنما الربـح والخسران في العمل
د. محمد صالح عوض، عضو المجلس الثقافي للمبدعين العرب