لعل من مسلمات القول أنْ نؤكد على أنَّ لغتنا العربية الأصيلة هي عنوان هويتنا الثقافية، وأساس موروثنا الفكري والإبداعي، على تشعب مساراته، وتعدد مناهله، وتنوع مجالاته، وأنَّ مسؤولية الحفاظ على هذا الأساس بل وتمتينه وتقويته وصونه بل تطويره أيضاً، إنما تقع على متحدث هذه اللغة، والقائمين على تعلمها وتعليمها، ومن يقومون على توظيفها في كتاباتهم وإبداعاتهم، والمؤسسات والجهات المنوط بها حماية اللغة وتوسيعها وتطويرها، ولا تقع على عاتق واحد فحسب من هؤلاء.
لعل الأساس الأول للحفاظ على لغتنا العربية هو إيجاد قاعدة من الحب والاحترام لهذه اللغة، ذلك أنَّ جوهر المعاناة، بل الهم الأكبر الذي تعاني منه هذه اللغة، إنما أساسه هو فقدان أبناء العربية من الشباب المعاصر بخاصة إحساسهم بلغتهم واحترامها. فمع التأكيد على أنَّ التحديات التي تواجه لغتنا اليوم، في ظل العولمة، وما يعيشه واقع الحياة المعاصرة الصاخب من تغيرات ومستجدات على صعيد الحياة كلها، هي تحديات جسيمة ومتعددة، وكذلك ما فرضته وسائل التواصل الحديثة من لغة تخاطب وتحاور قد تكون بعيدة تماماً في الأغلب الأعم، عن روح هذه اللغة وجمالياتها ومدلولاتها وبلاغتها التعبيرية والدلالية؛ إلا أنَّ الحاجز النفسي الذي يفصل أبناء العربية عن لغتهم، إحساساً ورؤية وتذوقاً واستخداماً، إنَّما هو العامل الرئيس في إيجاد الفجوة بين اللغة وأبنائها، مما ينذر بتفاقم المشكلة، واتساع فضائها بصورة قد يصعب استدراكها فيما بعد، إذا لم نتنبه لوجوب وضع خطط واستراتيجيات عربية نهضوية شاملة، يتحمل المسؤولية في تطبيقها على أرض الواقع كما ذكرت، الأفراد والحكومات والمؤسسات المعنية والجهات التي تقع على كاهلها مسؤولية الحفاظ على اللغة وتوسيع دائرة استخدامها، بل وتطويرها كذلك.
في قياس واجب نشير إلى معلومة طريفة تقول إن بريطانيا العظمى لو خُيِّرت بين مكاسبها والأموال التي كانت تدرها عليها توابل جزر الهند وحريرها في فترات من تاريخها المعاصر، وشكسبير؛ لاختارت شكسبير. وهنا مكمن الشجن الذي نعنيه في إطار تعاملنا مع لغتنا العربية، باعتبارها جوهر ثقافتنا وفكرنا وإبداعنا. لكن ما هي دلالة هذه المقولة التي تضع شكسبير في قائمة الاهتمام لدى البريطانيين. لعل ذلك أن يترجم المعنى الدلالي لشخصية شكسبير ذاته وإبداعه لديهم؛ فهو يعني أن أشعاره ومسرحياته التي قدمها إنَّما تمثل وثيقة حياتية إنسانية متكاملة، تكشف عن واقع الإنسان البريطاني بل الأوروبي بعامة، ولا نبالغ إذا قلنا إنَّها تقرأ ذات الإنسان بمفهومه المطلق والشمولي، بل إن هذه الأعمال الشكسبيرية بعامة تعني إطاراً من ثقافة وحضارة أصيلة لا بد من الحفاظ عليها، وهذا يرتبط عندهم بجانبين اثنين، نفتقدهما كثيراً في التعامل مع لغتنا العربية وموروثنا الفكري الأصيل؛ الأول منهما هو حفاظهم على موروثهم الفكري والإبداعي الذي يمثل شكسبير في نظرهم جانباً ثرياً ومهماً منه، والثاني منهما هو حب هذا الموروث وإعادة توظيفه وتذكره بل تطويره بشكل مستمر.
إنَّ قاعدة الحب التي نعنيها هنا في تعاملنا مع لغتنا العربية الأصيلة هي الأساس الذي نحمي به هذه اللغة، لكونها تمثل كياننا الفكري والثقافي بل وجودنا وهويتنا أيضاً، فبهذا الحب يمكننا كسر الحاجز الذي يفصلنا عن اللغة، وبه نبني جسور التعامل معها، بل لعلنا من خلاله أيضاً نولِّد قناة شعورية وجدانية تفتح لنا أفاق تذوق جمالياتها والإحساس بقيمة مخزونها الفكري والثقافي والدلالي والإبداعي الثري، الذي تركه عظماء مبدعون كثر على مر التاريخ.
نحن لدينا موروث ثقافي وفكري وإبداعي زاحر، لعبت اللغة العربية دورها في تأصيله وتدوينه وتوثيقه، وبغير هذه اللغة، يتوه الموروث بل يضيع ويفنى، ومن هنا؛ فإنَّ كسر الحاجز النفسي بين جيل الشباب بشكل خاص ولغتهم وموروثهم هو العامل الأساس الذي يفتح بوابة إحساسهم بجماليات لغتهم وبلاغتها وعمق مدلولاتها التي تهيئ لهم التعبير بسلاسة عما يريدون. إنَّ اللغة العربية لا تفقد قدرتها على التعامل مع مستجدات العصر ومستحدثاته العلمية والتكنولوجية، وما يشهده عالمنا اليوم من حالة التفجر المعرفي والمعلوماتي؛ فهي لغة سلسلة غنية بمفرداتها وتعبيراتها ودلالاتها، ولعل ما يحتاجه جيل الشباب اليوم في ظل هذا كله، هو القناعة والوعي والإدراك بأنَّ لغتهم العربية هي أكثر ثراءً وعمقاً وجمالاً مما يظنونه، في ظل قناعاتهم الموازية بأنَّ اللغات الأجنبية وبخاصة الإنجليزية، هي وسيلة التعبير في مجالات العلم والمعرفة والإبداع والبحث العلمي فحسب، وهذا ما يتعارض مع طبيعة اللغة العربية، التي تتميز بمطواعية التعبير وسلاسته وعمقه واتساع فضاء مدلولاته وتعدد أوجه بلاغته ومشاربها. لكن يبقى السؤال قائماً: كيف يمكن أن يتحقق هذا الهدف الأسمى، المتعلق بحب أبنائنا من جيل الشباب اليوم لغتهم العربية الأصيلة؟
أ.د. نصر عباس . أستاذ النقد الأدبي والفني بجامعة الفلاح بدبي