في ملخص لبحث علمي للأستاذ الدكتور نصر عباس – جامعة الفلاح حول هموم اللغة العربية الفصحى في مواجهة العولمة أوضح فيه أحد أهم اختصاصي اللغة العربية الفصحى في العالم العربي أنه لا يخفى على أحد ما للغة العربية من كبير أهمية في إحداث التواصل بين الإنسان والآخر في جانب ، وتفعيل النشاط والفعل الإنساني الحياتي في جانب آخر.
وتابع في ملخص دراسته التي نشرتها مجلة ” بحوث ” في عددها الثلاثين : من المؤكَّد الذي لا يخضع لأي شك أنَّ اللغة بشكل عام ، والعربية الفصحى بشكل خاص ، إنَّما تُمثِّل الهوية الفعلية للسلوك الإنساني اليومي ، وهذا ما اهتم بتناوله على مدى عقود مضت عدد كبير من الباحثين والمهتمين ، الذين ذهب معظمهم إلى أنَّ وظيفة اللغة الرئيسة هي إحداث التفاعل والتواصل والتفاهم بين البشر، فضلاً عن ما لها من دور في قراءة ثقافة هذا الإنسان وحضارته ؛ لكونها المكون الأساس لهذه الحضارة .
واستشهد عباس بمقولة الدكتور محمود السعران في معرض حديثه عن أهمية اللغة : ” إنَّ أهمية اللغة لفهم الثقافة هي حق يُحسُّ به مَنْ يعرضون لدراسة الحضارة “.
وأكد أن اللغة العربية الفصحي تواجه في زماننا هذا تحدياً كبيراً وشرساً وذا تأثير مباشر على بنيتها التعبيرية والدلالية ، فضلاً عن ما تعانيه في هذا الشأن من خطورة على ألفاظها ومفرداتها اللغوية ، ذلك كله بفعل ما أحدثته العولمة بمعناها الشمولي والعام على هذه اللغة ؛ ممَّا يستوجب على الباحثين الاختصاصيين تناول هذا الموضوع بالدرس والتحليل والتفسير والتعليل ، ضمن منهج البحث الوصفي التحليلي التفسيري .
ضعف اللغة من وهن أبنائها
وزاد : إنَّ لغتنا العربية في العصر الراهن تشهد حالة من الضعف والتراخي والنكوص؛ بفعل ضعف أبنائها وتأخرهم الملحوظ عن مواكبة متطلبات العصر التقني وتسارع الخطى في مسيرة التطوير والتحديث التي حاقت بواقع الحياة برمته ، وكذلك اكتفاء أبناء العربية بدور المستهلك في هذا الشأن لثقافات العالم ونسيان ثقافتهم الوطنية في الأعم الأغلب ، بل لعلنا لا نجاوز الحقيقة إذا قلنا إنَّ ثمة حالة من احتقار اللغة وإهمالها تنتاب أبناء العربية أيضاً، إلا مَنْ كان على يقين بأنَّ لغته هي عنوان وجوده ، وهويته الفكرية الثقافية الحقيقية .
الهجين الضار
وأضاف : إنَّ كثيراً من شبابنا العربي على امتداد الساحة العربية يركضون وراء أوهام لغات وثقافات قد يشع بريقها لكنَّها قد لا تنير الدرب ، كما يقول بعض الباحثين والمهتمين، وأعني أنَّ هذا البريق قد يبدو جاذباً لمَنْ يتأثر به ، مع نسيانه المطلق لأسس هويته ووجوده اللغوي والثقافي الأصيل . إنَّ استخدام هذه اللغات التي نشير إليها هنا قد أثَّر بصورة مباشرة ” في ظهور هجين لغوي أضرَّ باللغة الأم ، وطرائق استخدامها؛ فصرنا نُعبِّر عن العربية بتراكيب وأنماط لغوية ما عهدتها تلك اللغة ، نحو عبارة ” ممنوع التدخين ” ، على سبيل المثال ، فهذا تركيب لم نعهده بلغتنا، والصواب ” التدخين ممنوع “؛ إذ الجملة تتكون من مبتدأ وخبر، والأصل في المبتدأ أن يكون معرفة والخبر نكرة ، والسبب في الخطأ هو الترجمة الحرفية دون النظر في مقومات كل لغة وأنماط استخدامها ، وربما كان ذلك من نتائج تسرُّب العلمانية والعولمة للعالم الإسلامي؛ فأثَّرت في كل شيء ، بما في ذلك قواعد اللغة وأنماط الاستخدام الخاصة بها “.
تأثير معقد للعولمة
وتابع : ممَّا يجدر ذكره في هذا السياق هو أنَّ تأثير العولمة على استخدام اللغة العربية الفصحى وتوظيفها في التواصل اليومي بين الناس كان شديداً ومعقداً ؛ سواء أكان ذلك على مستوى نشر الأبحاث والكتب والمطبوعات الإلكترونية ، التي زخرت بها وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل مذهل ، من غير مراجعة أو تدقيق لغوي علمي سليم لها في الأعم الأغلب أم على صعيد اللفظ المفرد أو العبارة أو الصياغة اللغوية ، فضلاً عن ما نلمسه ونتابعه عبر تلك الوسائل جميعها من غزو ثقافي متعدد الأوجه شديد التأثير في الساحة العربية على صعيد الحياة الفكرية والدينية والعلمية والاجتماعية ، فضلاً عن ما له من كبير أثر على الصعيد النفسي أيضاً ، ذلك بفعل ما أصاب تلك اللغة من أثر سلبي خطير ومباشر، أفقدها كثيراً من سماتها وخصائصها، بل كاد أن يُضعف من هويتها وخصوصيتها الوطنية والثقافية ، ذلك كله بفعل ظهور مصطلحات وألفاظ جديدة لا تربطها باللغة العربية أية صلة ، لم يكن الإعلام بوسائله المختلفة ووسائل التواصل الاجتماعي كلها، بريئاً من تعزيزه وتوسيع فضاء تأثيره السلبي المباشر عليها .
تفاعل اللغات
وأكد عباس أن تعلُّم لغة أجنبية ، وبخاصة اللغة الإنجليزية لا يتنافى مع تفاعل اللغات وتزاوجها وتأثير كل منها في الأخرى بشكل إيجابي، بما يرتقي بالمستوى الفكري والثقافي للفرد ، بل إنَّه مطلب ملحٌّ تستدعيه تطورات الواقع الحياتي اليوم ، إذ إنَّ هذا التزاوج اللغوي يدفع إليه بالضرورة والحتمية تسارع حركة التقدم العلمي واتساع فضاء المعلوماتية المعاصرة ، لكن استئثار لغة أجنبية على اللغة الأم ، كما يقول الباحث الليبي أحمد إبراهيم ، ” هو الذي يُشكِّل الخطر الحقيقي والتحدي الفعلي الذي تواجهه هذه اللغة ، بل إنَّ طغيان لغة أجنبية يمثل مظهراً من الاستلاب ؛ لأنَّ اللغة هي العنصر الأخير في خندق الدفاع عن الكينونة ؛ لأنَّ الدول عندما تنهار عسكرياً وسياسياً ، وتُدمَّر قدرتها العسكرية تبقى اللغة كالقوقعة التي تحتفظ بها الأمة لنفسها ، فإذا سقط هذا الخندق؛ أصبحت الهوية معرضة للفناء ، ومرشحة للاندثار ” . في هذا السياق يقول الباحث الجزائري صالح بلعيد: ” إنَّ اللغة العربية هي المجال اللغوي الأول الذي تدخل منه العولمة لتدمير مقومات الأمة الذاتية ، وبذلك تنهار المعنويات في كل مناحي الحياة الثقافية والاجتماعية، ولا يعود للأمة عندئذ إلا الخضوع للأغلب أو للأقوى لغة وعلماً ، وتبرز صيغة المغلوب مولعاً بتقليد الغالب .