القراء الأعزاء في كل أنحاء الوطن العربي ، أكتب لكم في إطلالتي الأولى عبر موقع مركز لندن للبحوث حول موضوع بالغ الأهمية هو أصول محاسبة زكاة الشركات المعاصرة ، بعد أن باتت تحظى باهتمام متزايد من قبل العديد من الهيئات الدولية والمؤسسات المالية الإسلامية في العالم الإسلامي ، حيث توجد عدة طرق وأساليب لحساب زكاة الشركات ، بيد أنها طرق مستمدة من المحاسبة الضريبية تارة ، أو من أساليب وطرق التحليل المالي التقليدي تارة أخرى ، الأمر الذي أدى إلى شيوع حالة من الغموض والإبهام في فريضة ( حساب الزكاة ) في واقع البنوك والشركات المعاصرة .
في إحدى مبادرات التجديد في مفاهيم وتطبيقات محاسبة الزكاة في الواقع العملي للشركات والأفراد قامت جمعية المحاسبين والمراجعين الكويتية ( عام 2018 ) بإصدار معيار جديد باسم “معيار محاسبة زكاة الشركات طبقا لوصف الغنى في الشريعة الإسلامية “، والإصدار عبارة عن دراسة معيارية لفريضة الزكاة ، وذلك من مختلف الأبعاد الشرعية والمحاسبية والقانونية والاقتصادية ، حيث لقي قبولاً واسعاً من مختلف الأوساط في دولة الكويت ، كما صدّقت هيئة الفتوى الشرعية بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت على ما ورد في المعيار الجديد لحساب زكاة الشركات .
وفي العام نفسه أطلقت الجمعية أول شهادة مهنية دولية في محاسبة الزكاة معتمدة من قبلها ، وهي باسم ” محاسب زكاة معتمد “Certified Zakat Accountant CZA ، وقد كان لي شرف المشاركة في هذه الشهادة القيمة في محتواها وتطبيقاتها ، حتى حصلت على الشهادة بدرجة امتياز ، وقد رأيت أن من واجبي -كباحث أكاديمي متخصص في محاسبة الزكاة ومن واقع خبرتي العملية ميدانيا كممارس لمهنة المحاسبة المالية – أن أساهم في خدمة فريضة الزكاة في العالم الإسلامي ، وأن أدعم المعرفة المتميزة التي طرحها معيار جمعية المحاسبين الكويتية ، فقررت أن أبدأ سلسلة من المقالات العلمية التى توضح للسادة الباحثين والقراء الأسس الشرعية والقانونية والمحاسبية التى يرتكز عليها معيار محاسبة الشركات وفقا لطريقة صافى الغنى فى الشريعة الإسلامية .
أحبتى الكرام لماذا وصف الغنى بالتحديد هو علة الزكاة ؟ للإجابة على هذا السؤال إليكم الأدلة التالية :
قال الحق سبحانه وتعالى ( لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) سورة البقرة (273) والشاهد فى هذه الآية المقابلة بين وصفى الفقر والغنى فى أحوال الناس .و لما بعث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن أمره بقوله ( فأخبرهم أن الله إفترض عليهم زكاة فى أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ) رواه البخارى 2/105 برقم 1395 ورواه مسلم 1/50 برقم 19 ، والشاهد فى هذا الحديث الصحيح أن الزكاة تؤخذ من الأغنياء أى اللذين يتصفون بصفة الغنى وتعطى للفقراء أى اللذين يتصفون بصفة الفقر وتعنى عدم المقدرة على مواجهة متطلبات الحياة وعدم القدرة على تلبية الحاجات الأساسية من المأكل والمشرب والحاجات الأساسية .
ولقد نص علماء أصول الفقه على أن تعليق الحكم على الوصف مسلك صحيح معتبر من مسالك العلة .
وقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ( ليس المسكين الذى ترده الأكله والأكلتان ، ولكن المسكين الذى ليس له غنى ) رواه البخارى 2/124 برقم 1476 وفى هذا الحديث جعل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم علامة المسكين نفى وصف الغنى عنه . و أنصبة الزكاة التي شرعها الله في الأموال تعنى وجود ثروة ووفرة مادية ، والتي بها يتحقق (وصف الغنى) في عرف الناس، بل إن الشرع الحكيم علمنا صراحة أن الزكاة لا تجب فيما دون حدود تلك الأنصبة الشرعية ، وذلك مراعاة لحال (الغنى) كشرط رئيس لوجوب الزكاة في المال . وبهذه الأدلة القاطعة والواضحة يتبين لنا بأن وصف الغنى له أصل شرعى فى كتاب الله سبحانه وتعالى وفى السنة الصحيحة عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم .
وبعون الله سوف نتناول فى المقال القادم إن شاء الله تعالى بيان الشروط الاربعة الضابطة لوصف الغنى فى الشريعة الإسلامية .