مركز لندن في مؤتمر "الصحة النفسية" بالإسكندرية

on 18 February 2020, 02:34 PM

محمد عبد العزيز : الإعلام العربي يسوق لللاوعي

أ. محمد عبد العزيز أثناء إلقاء المحاضرة

عبث الإعلام بالنضج المعرفي لدى الجمهور غزو ناعم

الإعلام المضلل ينتج ويغذي مثلث الدمار “الجهل والفقر والمرض

في محاضرته التي ألقاها في الجلسة الإفتتاحية بالمؤتمر الدولي ” الصحة النفسية من الطفولة إلى الكهولة ” الذي نظمه مركز التعليم وتطوير القدرات الشبابية بمحافظة الإسكندرية بجمهورية مصر العربية منتصف فبراير الجاري أكد مدير عام مركز لندن للبحوث محمد عبد العزيز أن الإعلام العربي يمر بأسوأ مراحله على الإطلاق فيسوق لللاوعي ويغذي مثلث هدم المجتمعات المتمثل في الجهل والفقر والمرض .

وأضاف عبد العزيز في المؤتمر الذي حضره عدد كبير من الأكاديميين  والمحاضرين الدوليين والإستشاريين من مختلف الجامعات برئاسة الخبير الإستراتيجي ومستشار التدريب أ.د إيمان حسان.

يظن البعض أن الصحة الجسمانية هي تمام الصحة والعافية غير مدركين أنها ليست إلا جزءً من الصحة العامة ، فلا تكتمل الصحة من دون صحة نفسية سليمة ، فهي جزء رئيسي منها تتأثّر بالعوامل الاجتماعية والإقتصادية والبيولوجية والبيئية ، والإعلام أحد أهم تلك العوامل لاسيما في العقد الأخير من الزمن .

و ينص دستور منظمة الصحة العالمية على أنّ “الصحة هي حالة من اكتمال السلامة بدنياً وعقلياً واجتماعياً، لا مجرّد انعدام المرض أو العجز”. مطالباً الحكومات الإهتمام  بالصحة النفسية لكونها مطلباً حيوياً للأفراد والمجتمعات في جميع أنحاء العالم ، وهي حالة تمكن الفرد من تكريس قدراته الخاصة والقدرة على التكيف  مع أنواع الإجهاد العادية وظروف العمل بتفانٍ وفعالية  ليسهم في نهضة مجتمعه وهي أيضاً من  الأمور الأساسية لتوطيد قدرتنا على التفكير، التأثر، والتفاعل مع بعضنا البعض كبشر، وكسب لقمة العيش والتمتع بالحياة. وعلى هذا الأساس، يمكن اعتبار تعزيز الصحة النفسية وحمايتها شاغلاً مهماً للجميع .

وأَضاف أن استحكام الضغوط الاجتماعية الإقتصادية من المخاطر التي تحدق بالصحة النفسية للأفراد والمجتمعات المحلية ، متهماً ما سماه الإعلام المضلل في الوطن العربي الذي يغذي ويتغذى على  المثلث القاتل للمجتمعات وهو  الجهل والمرض والفقر، وهي أكثر ما ينال من الصحة النفسية للإنسان .

 وأكد عبد العزيز أن ثمة  علاقة أيضاً بين تدني مستوى الصحة النفسية وعوامل من قبيل التحوّل الاجتماعي السريع، وظروف العمل المجهدة، والتمييز القائم على نوع الجنس، والإستبعاد الاجتماعي، وأنماط الحياة غير الصحية، ومخاطر العنف واعتلال الصحة البدنية، وانتهاكات حقوق الإنسان. كما أن  هناك عوامل نفسية و أخرى لها صلة بشخصية الفرد ما يجعله عرضة للاضطرابات النفسية. وهناك، أخيراً، بعض العوامل البيولوجية التي تسبّب تلك الاضطرابات ومنها العوامل الجينية واختلال توازن المواد الكيميائية في الدماغ.

وأوضح أن الثقافات العربية في هذا الصدد تزيد من آلام الصحة النفسية لدى الأفراد ومنها على سبيل المثال أن يتحول المرضى النفسيون أو المصابون باضطراب دماغي إلى أناس منبوذين أخلاقياً أو اجتماعياً ، حتى أن  وجود مريض عقلي في أسرة ما بات وصمة عارٍ لجميع أفرادها ، و يتعامل الأصدقاء و الأقارب معه و مع أسرته بريبة و خوف . بل تحاول الأسرة نفسها إخفاءه باعتباره مصدر إحراج لها ، وليس هذا فحسب بل إن  الكلمات المستخدمة  في الإعلام في الإشارة إلى المريض النفسي  كثيراً ما تكون محقرة من شأنه مثل المجنون أو المعتوه أو المتخلف ما يشكل انهزاماً نفسياً ، ولطالما هرب عشرات الخطاب من امرأة على مقدار بالغ من الجمال و الثقافة و دماثة الخلق لسبب واحد هو ترددها على طبيب أمراض نفسية قبل سنوات ، بعد أزمة نفسية تعرضت لها و تحولت تلك الزيارات إلى وصمة عار لها و اتهاماً ضمنياً بأنها مجنونة  ،  وعلى رغم ما يتميز به المجتمع العربي من روابط أسرية قوية ، ومؤسسات اجتماعية مترابطة ، و قيم روحية و دينية تؤثر إيجابياً في الصحة العقلية لسكانه ، فإن المنطقة معبأة بالمشكلات المزمنة مثل خطر الغزو الناعم ” الإعلام المضلل ” وويلات الحروب والنزاعات  في عدة دول بالمنطقة ومئالاتها إلى النزوح لا شك يطال من الصحة النفسية للملايين .

وتابع : لقد أظهر استقراء أجري بين مستخدمي شبكة الإنترنت أن واحداً بين كل خمسة أشخاص يعاني ثلاث مشكلات صحية نفسية أو أكثر ، و أن ثلاثة بين كل خمسة أشخاص يؤكدون أنهم واجهوا مشكلات خاصة بالصحة العقلية مباشرة أو من خلال شخص يعرفونه .

                            

وكشف عبد العزيز عن التأثير الإعلامي على الصحة النفسية ، مؤكداً أنه يمثل الخطر بالغ الأهمية ، فالرسالة الاعلامية التي تقدم مضمون ومعارف موجهة من شأنها أن تغير قناعات قائمة أوتغرس قناعات جديدة تؤثر في مواقف المتلقي تجاه قضايا مجتمعية فتنال من الصحة النفسية ًللجمهور سلباً أو تدعمها  إيجابا ، وأخطر أنواع الرسائل الاعلامية تلك الموجهة إلى العقول فالكلمة يمكن أن تكون نوراً ينيرالدروب وأحيانا تكون ناراً تحرق الأخضر واليابس في مجتمع تسبب الإعلام المضلل في انكساراً نفسياً لأفراده وخارت قواهم فتضائل إنتاجهم وتراجعت التنمية فتأخر المجتمع عن ركب الحضارة وهناك أمثلة عديدة على ضلوع الرسالة الإعلامية السلبية في هزيمة المجتمعات بالإنكسار النفسي لأفرادها .

وقال : إن عبث الإعلام بالنضج المعرفي لدى الجمهور هو غزو ناعم  ينفذ إلى النفوس عبر العقول ولا بد للمجتمعات التي تحترم حقوق الإنسان في أن يحيا سليماً، أن تواجه الإعلام المضلل الذي يتنفس كذباً تحت وطأة السلطة والمال والجاه ليعبر بالمجتمع إلى مثلث الدمار الشامل وهو الفقر والجهل والمرض ، فضلاً عن إسهامه في ترسيخ المفاهيم الخاطئة السائدة عن الصحة النفسية والمعالجة القميئة  لأمراض المجتمع النفسية والصحية من قبل الدراما العربية أفلام ومسلسلات ، فالمريض النفسي مثلا مدعاة للسخرية والتهكم، مادة للضحك في وقت يجب أن يكون محل تقدير واهتمام من كافة أجهزة الحكومات وصناع الإعلام للإسهام في تحويل هذه الفئة إلى فئة منتجة .

ولفت عبد العزيز إلى أن بسطاء الناس ربما لا يعون مخاطر مثالب الإعلام  وقدرة ضعاف النفس فيه من تزييف الحقائق ، لذلك قد ينخدع كثيرون بسرعة، بما يتم طرحه من أهداف ومشاريع وأجندات مشبوهة لا تمت للحقيقة بصلة، وقد نعطي العذر للبسطاء بسبب تدني مستوى الوعي لديهم، وضعف الإطلاع وفهم ما يجري ، ولكن ما هو عذر العقول  المفكرة المتخصصة الواعية عندما تنطلي عليها مثل هذه الأكاذيب وتؤثر عليها، فتغير من قناعاتها وسلوكها أيضا ؟، إن الخطر كل الخطر يكمن في قدرة الإعلام المزيف على التأثير في العقول الواعية المتخصصة. فالمتوقع والمرجو من تلك  العقول الذكية كشف التضليل والتزييف الإعلامي وفضحه وتنوير بسطاء الناس ، فإذا سقطت هذه النخب  في الفخ فقل على  المجتمع السلام ، لأن المجتمع ينهض بالإهتمام بكل مكوناته لاسيما العالم والقاضي ، فالأول ينير عقول الناس والثاني ينشر العدل بينهم فيقبلون على العمل والإنتاج بصحة نفسية عالية .

وأوضح أن  الحقيقة والإعلام صنوان مكملان لبعضهما البعض  ، فالحقيقة تسهم في صناعة إعلام ناجح، والإعلام يمكن أن يقوم بدور مهم في كشف الحقائق وتثبيتها. إذاً فإن دور الإعلام يمكن أن يكون كبيراً في تثبيت الحقائق، أو تغييرها، وله قدرة كبيرة على التلاعب بالعقول، ليس البسيطة العادية غير المتخصصة فحسب، وإنما يمكن للإعلام المضلل أن يتلاعب حتى بعقول النخبة المناط بها تطوير المجتمع .

وأكد أن الإعلام هو صوت الناس شريطة تمتع القائمين عليه بشروط  تجعل منه قادراً على القيام بهذا الدور الكبير، فصوت الناس، هو رأيهم، وهذا الرأي الجمعي، لا يستطيع أحد أن يمثله ما لم تكن له مزايا خاصة تجعله قادراً على أداء هذه المهمة الصعبة، فحتى تكون ممثلاً لصوت الناس ورأيهم ينبغي أن تكون صادقاً ودقيقاً، وحتى تحصل على هذه الصفة الأخيرة، عليك أن تعتمد الحقائق والأسانيد الصادقة، ولا تذهب في طريق الأوهام وخداع الناس لأنك حتماً ستنكشف يوماً ما ، لكن بعد أن تكون قد أسهمت في هدم مجتمعك بتضليل أفراده وتنفيذ أجندات غيرك .

وارتأى عبد العزيز أن الحلول الشافية لأمراض الصحة النفسية في المجتمعات العربية تكمن في عدة إجراءات منها  رفع درجة الوعي عن قضايا الصحة النفسية بين المواطنين، بالتعاون مع الإعلام النقي وليس الخارج عن دوره التنويري في معركة الوعي الذي بات  يسوق لللاوعي .

وشدد على أن  عملية تعزيز الصحة النفسية تستلزم تهيئة ظروف العيش والبيئات المناسبة لدعم الصحة النفسية وتمكين الناس من اعتماد أنماط حياة صحية والحفاظ عليها مثل البيئة التي تحترم وتحمي أدنى الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية الاقتصادية والثقافية وهي  من العوامل الأساسية لتعزيز الصحة النفسية. ومن الصعب كثيراً، دون الأمن والحرية اللّذين تكفلهما تلك الحقوق، الحفاظ على مستوى عالٍ من الصحة النفسية.

وزاد : لا ينبغي أن تركز السياسات الوطنية الخاصة بالصحة النفسية اهتمامها على اضطرابات الصحة النفسية فحسب، بل ينبغي لها أيضاً الإعتراف بالقضايا الواسعة النطاق المتعلقة بتعزيز الصحة النفسية، والعمل على معالجتها، ويشمل ذلك دمج ملف تعزيز الصحة النفسية في السياسات والبرامج على مستوى الحكومة والقطاعات الأخرى، بما في ذلك التعليم والعمل والعدالة والنقل والبيئة والإسكان والرعاية الاجتماعية وكذلك قطاع الصحة.

كما دعا إلى تقديم الدعم اللازم للأطفال من خلال  برامج بناء المهارات وتنميتها لدى الشريحة من 6 إلى 13 عاما ، إضافة إلي  تمكين المرأة في المجال الاجتماعي الاقتصادي وتقديم الدعم الاجتماعي اللازم إلى المسنين و البرامج التي تستهدف الفئات المستضعفة، بما في ذلك الأقليات والسكان الأصليين والمهاجرين والأشخاص المتضررين بسبب النزاعات والكوارث و الأنشطة الرامية إلى تعزيز الصحة النفسية في المدارس و أماكن العمل  فضلاً عن تحسين سياسات الإسكان وبرامج الوقاية من العنف وبرامج التنمية المجتمعية (مثل مبادرات “المجتمعات المحلية الواعية”، والتنمية الريفية المتكاملة). وأخيراً على المجتمعات العربية أن تتبنى برامج ومشروعات عمل وخطط تسهم في الحد من الفقر وتوفير الحماية الاجتماعية للفقراء وتشريع  القوانين المناهضة للتمييز و حماية الحقوق والفرص ورعاية الأفراد الذين يعانون من اضطرابات نفسية .

وطالب عبد العزيز في ختام محاضرته  الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني  وصناع القرار في كل المجتمعات العربية التكاتف لمواجهة كل ما ينال من الصحة النفسية للإنسان سواء كان إعلاما مضللاً أو تشريعات لا تجد أدوات قوية لتنفيذها.

 

مدير المركز يلقي المحاضرة
د.إيمان حسان تكرم أ.محمد عبد العزيز
إدارة المؤتمر تكرم أسرة عمل مركز لندن