متلازمة الجزرة

on 03 October 2021, 11:22 PM
بقلم:د. سونا عمر
بقلم:د. سونا عمر عبّادي الأستاذ المساعد في القضاء الشرعي والتحكيم جامعة العلوم الإسلامية العالمية- الأردن

الرغبة الكامنة في النفس تجاه الأشياء، للحصول عليها أو الوصول لها.. طغيان أم نكران لقيمة الذات؟ هاجس أمل أم هوس وفشل؟ وهل الرغبات التي تصاغ بمفهوم (المطامع) يمكن أن تصنف بطريقة عادلة بين المحمود والمذموم؟ أم أنه انفلات للأمن الأخلاقي الذي ينحدر إلى حد الانغماس في الخطيئة -كما كتب توماس أكويناس في الخطايا المميتة.


سؤال كبير ومتشعب في واقع تحليل طرفي المعادلة في النظم الإدارية بمفهومها العام، والذي يبدأ من إدارة الذات مروراً بإدارة الأسرة الصغيرة إلى إدارة الدولة الكبيرة.. ولأن الإجابة على هذا السؤال ينبغي أن تقع ضمن دائرة انتقاد الذات أولاً، وشعورك حيال نفسك عند تحرك المطامع والرغبات تجاه الأشياء.. هل هو حق أم لا..؟

فقد تحمل تلك الرغبات جانب (الرجاء) كما جاء على لسان إبراهيم عليه السلام: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)، أو(الحافز نحو المثابرة) كما في خطاب إيفان بويسكي في حفل تخريج كلية إدارة المال والأعمال بجامعة كاليفورنيا عام 1986، عندما قال: “إن الطمع أمر جيد على فكرة، أود أن تدركوا ذلك، إنني أعتقد أن الطمع شيء صحي، فيمكن أن تكون طماعاً، وفي نفس الوقت تشعر بشعور جيد حيال نفسك”


لكن.. ربما كان المضمون الذي تحمله سياسة ماكجريجو في الإدارة لم يعطي تصوراً دقيقاً للعلاقة بين الدافعية وفلسفة الطبيعة البشرية نحو العمل، عندما ارتبطت بطريقة ما بسياسة (العصا والجزرة).. أو فلسفة الثواب والعقاب ، أو الوعد والتهديد، أو القوة الناعمة والقوة الصلبة…الخ، فإن وجود الرغبة تجاه العمل أو تجاه الحصول على الأشياء إجمالاً، ينشأ من توجه فطري نحو تلبية الحاجات الذاتية، أو تلبية حاجات المحيطين إذا ارتبطت بجانب المسؤولية، كتلبية احتياجات الأسرة مثلاً.
ولذا يتجه الكثيرون إلى أن استثارة الرغبات الكامنة في النفس (المطامع) تجاه الحوافز والجوائز لها فاعلية كبيرة في تطوير العمل، بينما يرى آخرون أن التطويع بتوجيه العقوبة أقل كلفة، وأجدى نفعاً، كما يقول أحد الكتاب : إن تحرير المخالفات مثلاً تمنع الجموح والخطأ، وفي نفس الوقت نجني مكاسبها من دفع الغرامات، وهذا أسهل وأوفر من دفع المكافآت..!!

وعوداً إلى المصدر الأوروبي ، فإن سياسة (العصا والجزرة) ارتبطت بسلوك أهل تلك البلاد عند ترويضهم للحمير باستخدام الجزرة التي توضع متدلية أمام الحمار، ليستمر في السير محاولاً الوصول للجزرة، وباليد الثانية العصا الموجهة لظهره في حال توقف أو تقاعس أو خالف المسير.. وقد مورست هذه السياسة بشراسة إبّان الحرب العالمية الثانية لإخضاع الشعوب، إلا أنها اتجهت بعد وقت ليس بقصير إلى الدبلوماسية الناعمة (مع أن العصا لا تزال موجودة إلا أنّهم سحروا أعين الناس عنها.. وليس كهنة فرعون منا ببعيد..!!) ، فها هو (بايدن) يعلن مثلاً منذ بداية توليه للسلطة أنه لن يستخدم هذا الأسلوب في إدارته تجاه دول العالم..!!


وهنا يحضرني تساؤل من نوع آخر..هل يكون لاستثارة بواطن الطمع وتحفيز مفهوم الثواب غير العادل نزوحاً نحو فقدان السيطرة الذاتية؟ شيئاً أعتبره متلازمة مرضية أو باثولوجية نفسية يمكن أن أسميها (متلازمة الجزرة)؟؟

هل ترى معي حجم المتدفقين مثلاً للاشتراك في المسابقات المليونية..؟ بمعادلة رياضية بسيطة يمكن بسهولة أن تنستنتج أن احتمال الحصول على جائزة من مثل هذا النمط أقل من واحد على مليار..!! ومع ذلك تجد الضخ الإعلامي لتحفيز المطامع نحو دفع الرسوم يملأ العيون بريقاً، ويهيء للمشترك أنه حتماً سيحصل على مليون دولار.. ويبدأ المسكين بخيالاته نحو بناء القصور في الهواء..!!

أو أن يصبح الثواب لمن لا يستحق.. ل الئك المنافقين أو المتسلقين..!! والذي سيضرب بمبدأ المثابرة عرض الحائط، ويحطم قاعدة الحقوق والواجبات، ويشوه قيمة الانتماء والإخلاص والصدق في المجتمعات.. وعندها سيبرز المثل القائل -باختلاف عباراته بين الشعوب-: (الطالح ماخلاش للصالح حاجة)..!!


إن مقياس الرغبات المرهون بالثواب لا يستقيم بغير ميزان يا سادة، كما هي سياسة المؤيدات التشريعية المرتبطة بالعقوبة أيضاً.. ولا أقصد بذلك أبداً ميزان جارنا أبو حسن صاحب الدكانة (البقالة)، الذي لا يمكن أن تجد مقاييس الأوزان عنده متفقة مع أي ميزان في العالم..!! وإنما هو الميزان الرباني.. الذي يمثل شيفرة الكون الأول لتصويب السلوك للحاضر والمستقبل، وبطاقة التأمين الأولى لعلاج جميع المتلازمات، دون الحاجة لأخذ أي علاجات أومطاعيم، بما فيها متلازمة الجزرة..