إشكاليات الاستراتيجية في زمن الإدارة الالكترونية

on 25 October 2020, 07:10 AM
د. محمد الجيزاوي
د. محمد الجيزاوي

قبل أربعين عاماً خلت – تاريخ بداية الشبكة العنكبوتية العالمية– لاح في الأفق تغير هيكلي جديد في المجتمعات، استفاد من تراكم الخبرات منذ الثورة الصناعية حتى الآن، حيث أتسعت آفاق المعرفة وزادت رغبة الإنسان في الاعتماد عليها ،وزاد إيمانه بمنظومة المعلومات وأهميتها في الإدارة فأصبح سمة المجتمعات في الآونة الأخيرة المعلومات والمعرفة اعتمد فيها علماء الإدارة على تطور تقنية الاتصالات الفائقة والتقدم التكنولوجي الهائل في الحاسب الآلي وما أفرزه من تقنية شبكة الإنترنت وإرهاصاتها التي ظهرت في الشبكات الداخلية داخل المؤسسات، والشبكات الخارجية  مع عملائها ومورديها، وبالرغم من وجود مؤيد ومعارض حول هذا الميلاد الجديد وعلاقته بالإدارة  إلا أن هناك حقيقة في هذا الجدل الدائر تثبتها النقاشات والمناظرات العلمية،  ألا وهي أن هناك تغيراً في الأفق أخذ في الاكتمال يوماً بعد يوم، يدق جذوره في الأرض بقوة وينافس البدائل التقليدية المطروحة بجرأة ويوما بعد يوم يزداد أتباعه ومؤيدوه وهذا التغيير هو الإدارة الإلكترونية التي تعمل في ظل القطاع الاقتصادي الرابع – المعلومات والمعرفة- والذي يعتبر القطاع الأكثر أهمية وكفاءة في إنشاء الثروات في الوقت الراهن. 

ويشكل محور الإدارة الاستراتيجية جدلاً واسعاً في ميدان الاستراتيجيات الإلكترونية لما له من خصوصية في عدة أوجه:

 أولاً: الزمن. حيث يعتبر الزمن روح الاستراتيجيات التقليدية سواء بتحليل السلاسل الزمنية الماضية أو بالتنبؤ واستشراف المستقبل، وهو كذلك المساحة التي يتحرك فيها المخطط والتي تبدأ من ثلاث سنوات وقد تنتهي بعد خمس أو عشر سنوات وقد تصل إلى خمسين سنة في بعض الأحيان. بينما الزمن في الاستراتيجيات الإلكترونية فله مواصفاته الخاصة جدا والتي تؤول في بعض الأحيان إلى الصفر حيث يقل اهتمام الاستراتيجيات الالكترونية بعامل الزمن إلى حد بعيد، ولعل من أبرز مواصفات الزمن في الإدارة الالكترونية: 

  • السرعة في طرح الجديد على فترات زمنية متقاربة جدا، مما جعل الزمن أهم تحديات الإدارة الاستراتيجية.
  •  والتتابع الذي يظهر من خلال النمو الرأسي في كافة مناحي المعرفة، مما يجعل بناء الاستراتيجية وصمودها لفترات طويلة بالغ الصعوبة.
  •  الشمول الذي لا يستثني شيئًا من التطور والنمو والتغيير.

 ولعل هذه التغيرات بسماتها سالفة الذكر فرضت حتمية النظر للاستراتيجيات الإلكترونية بطريقة مختلفة تتناسب مع ظروف ومتغيرات البيئة الجديدة، بدءً من بناء الرؤية والرسالة للمنظمة ومروراً بالتحليل والاختيار والتنفيذ الاستراتيجي وانتهاء بالرقابة الإلكترونية.

ثانياً: التقنية. وإذا كان الزمن هو روح الإدارة الاستراتيجية التقليدية والمساحة التي يتحرك فيها المخطط فإن التقنية هي روح الاستراتيجيات الإلكترونية والمساحة التي يتحرك فيها المخطط، وهي كذلك تبدأ من ميكنة المنظمة بالوسائل التقنية التي باتت معروفة في المؤسسات كالفاكس وآلات التصوير وأجهزة الحاسب الآلي وانتهاء ببناء موقع للمنظمة تنجز عليه كافة أعمالها سواء مع الموردين أو العملاء من خلال شبكة الإنترنت، أما التقنية في الاستراتيجيات التقليدية تمثل جزءً مهماً يجب دراسته عند إجراء تحليل البيئة بجانب تحليل البيئة الاقتصادية والقانونية والاجتماعية والسياسية للمنظمة كخطوة أولى عند إجراء التحليل الاستراتيجي.

ثالثاً: البدائل الاستراتيجية. تقوم البدائل الاستراتيجية التقليدية على تحديد الاتجاهات الاستراتيجية للمنظمة ، وقد تكون هذه الاتجاهات الانسحاب من السوق أو التوغل فيه أو التعزيز أو تطوير المنتج أو التنويع بشقيه المرتبط أو غير المرتبط،  كذلك عند تحديد البدائل الاستراتيجية التقليدية يجب تحديد الأساس الاستراتيجي من خلال تحديد المزايا النسبية  التي يتحدد من خلالها المنظمات القيادية في الصناعة، وأخيراً تحديد طرق النمو الاستراتيجية بالمنظمة من الخارج من خلال التحالفات الاستراتيجية بالدمج والاستحواذ أو التراخيص أو الامتياز، أو النمو من الداخل عن طريق اعتماد المنظمة على إمكاناتها وقدراتها. أما البدائل الاستراتيجية الإلكترونية فهي تنحصر في قدرة المنظمة على الولوج في عالم التقنية وتطوير أدائها، ومدى جاهزيتها لمواكبة المنظمات القيادية في توظيف التقنية للاستفادة من الفرص المتاحة أو خلق فرص جديدة تضمن ريادة المنظمة في مجالها في المستقبل.

رابعاً: إدارة التغيير. فإذا كان إدارة التغير جزء هام في التنفيذ الاستراتيجي للاستراتيجيات التقليدية فإن إدارة التغيير في صلب العمل اليومي في الاستراتيجيات الإلكترونية، حيث أن التغيرات آنية في التنفيذ الإلكتروني لذلك يتطلب نوعية خاصة من العاملين فيها، أهمها أن يكونوا على قدر كافي من التأهيل التقني، والقدرة على اتخاذ القرارات دون الرجوع إلى المستويات الإدارية العليا في ظل الضوابط العامة للمنظمة. 

خامساً: الهيكل التنظيمي. ولعل الهيكل من الأمور القليلة التي تتوافق فيها الإدارة الاستراتيجية مع الإدارة الالكترونية في طريقة التعامل معه. فالإدارة الاستراتيجية مرنة للغاية في التكيف مع متطلبات التغيير في الهياكل الوظيفية للمنظمة، بل هو أحد متطلباتها الرئيسية لتنفيذ الاستراتيجية، لذلك عادة ما تتطلب الإدارة الاستراتيجية في المنظمات التقليدية المدارة إلكترونياً والمنظمات الالكترونية تغيير الهياكل بما يتناسب مع اسلوبها الالكتروني الجديد، وتستجيب الإدارة الالكترونية وتقدم خيارات متعددة لتحقق متطلبات الإدارة الاستراتيجية، وأكثر التنظيمات قبولاً في هذه المنظمات هو التنظيم الشبكي، حيث أنه الأكثر مناسبةً، ففيه يتم تجاوز العلاقات الخطية بين الأفراد إلى علاقات شبكية تكون أكثر تنوعًا، أفقيًا ورأسيًا، والتي تتناسب مع خصائص الشبكات الداخلية والخارجية والإنترنت والتي تقوم على السرعة والتشبيك الفائق بين أفراد المنظمة.

سادساً: الرصد والتوثيق. تتكامل الإدارة الالكترونية مع الادارة الاستراتيجية بشكل رائع في عامل الرصد والتوثيق، حيث تقدم الإدارة الالكترونية ” ذاكرة مؤسسية مركزية” للمنظمة، وكل الأقسام والإدارات تأخذ منها وتعطيها المعلومات حسب الصلاحيات التي تمنحها لهم المنظمة، وبذلك تستقي الإدارة الاستراتيجية معلوماتها من مصادرها الأصلية وبشكل موثق فتستطيع القيام بالتحليل بشكل أفضل وبناء بدائلها الاستراتيجية على حقائق أكثر موثوقية.

لقد أصبحت لغة العصر في هذا الزمان هي التساؤل الدائم عن: ما هو الجديد؟ وكيف نتعلمه؟ وكيف يمكن الاستفادة منه؟  وإلى أي مدى سيكون هذا الجديد قابلاً للتطور؟  وما الزمن الذي سيظل فيه في الصدارة؟ وكم سيستغرق من الزمن ليتطور، وما أبعاد وأشكال تطوره؟ وجميعها أسئلة تطرحها وتؤججها مكونات الإدارة الالكترونية، وتتمايز قدرات المنظمات الاستراتيجية في رصد واستيعاب هذه الأسئلة وتتبع الإجابات عليها لبناء استراتيجيات وتنبؤات واقعية تحسن فيها المنظمات من مراكزها التنافسية في واقع أهم حقائقه الثابتة هو التغيير.